إبراهيم محمد الهنقاري: أحمد الصالحين الهوني.. ظاهرة متميزة في الاعلام الليبي والعربي

إبراهيم محمد الهنقاري: أحمد الصالحين الهوني.. ظاهرة متميزة في الاعلام الليبي والعربي
إبراهيم محمد الهنقاري

تمر علينا هذه الأيام الذكرى الرابعة عشرة لرحيل رجل متميز في الاعلام الليبي والعربي ترك بصماته وتاثيره واسس مدرسته الخاصة في الاعلام الزميل والصديق والأخ العزيز الاستاذ احمد الصالحين الهوني طيب الله ثراه.

عرفت الاستاذ احمد الصالحين الهوني قبل ان يتولى مسؤولية وزارة الاعلام. وكانت بيننا لقاءات واحاديث حينما كان مسؤولا عن شؤون الحج في وزارة الشؤون الاجتماعية. وعندما تم اختياره وزيرا الاعلام في حكومة المرحوم الاستاذ عبدالحميد البكوش زرته في مكتبه لتهنئته وكنت في ذلك الوقت وكيلا مساعدا لوزارة شؤون البترول واذكر انني قلت له انت واحد منا نحن رجال الاعلام السابقون واللاحقون وأمامك الان فرصة لبناء مؤسسة إعلامية ليبية يكون لها شانها في كتاب الاعلام الليبي والعربي. كنت واثقا من انه سيكون وزير اعلام مختلف. ذكرني في بساطته وتلقائيته بأول وزير لهذا القطاع الهام وهو المرحوم الاستاذ حسن ظافر بركان. ولكن الاستاذ احمد يزيد عنه قليلا فهو صحفي وكاتب ورجل اعلام قبل تولي الوزارة. وهو يعرف تماما ما يريد عمله لبناء قاعدة إعلامية ليبية وعربية جديدة. واستبشر كل الإعلاميين الليبيين بهذا الاختيار الذي كان في محله. 

كان دائما يبدي استغرابه من تركي لقطاع الاعلام وانتقالي لقطاع النفط. وعندما كان يسألني في ذلك كنت أقول له أن يسأل في ذلك الدكتور محي الدين فكيني رحمه الله. 

تولت حكومة الاستاذ عبد الحميد البكوش المسؤولية عقب استقالة حكومة الاستاذ عبد القادر البدري اثر احداث الهزيمة المنكرة للعرب يوم الخامس من حزيران ١٩٦٧. وكان على وزير الاعلام الجديد الاستاذ احمد الصالحين الهوني ان يواجه هذا الحدث الخطير إعلاميا وما اثاره داخل الوطن من الغضب والثورة وقد نجح في ذلك بخبرته وذكائه فكان حديثه للصحفيين ولوزراء الاعلام العرب مختلفا وجديدا. 

كان من نوادره التي لا ارى بأسًا من الكشف عنها انه كان يقسم المسؤولين في الحكومة الليبية الى “جماعة الانجليز” و”جماعة الأمريكان”.!! اما هو فكان يعتبر نفسه من “السنوسيين”. ولا اعتقد انه كان جادا في ذلك ولكنه كان يرى نفسه وزيرا مختلفا، وربما كان حقا كذلك.

وعند تكليف السيد ونيس القذافي رحمه الله لتشكيل الحكومة الملكية التي ستكون الاخيرة في ليبيا احتفظ الاستاذ احمد بحقيبة وزارة الاعلام والثقافة. كنّا كثيرا ما نلتقي في طرابلس وفي البيضاء. وقبيل الاول من سبتمبر ١٩٦٩ حدثت أمور خطيرة في ليبيا لعل ابرزها استقالة الملك الصالح السيد محمد ادريس المهدي السنوسي طيب الله ثراه وتكليفه لصاحب السمو الملكي الامير الحسن الرضا المهدي السنوسي تولي الامر في ليبيا.

لا اعلم ان كان التعتيم الإعلامي الذي صاحب تلك الفترة التي تعمد الإعلام الليبي عدم الكشف رسميا عن تفاصيلها للمواطنين كان بتعليمات مباشرة منه او انه أرغم على ذلك. ولكن ما حدث بعد ذلك وما اخبرني به الاستاذ احمد بعد ذلك أيضا يدل على انه لم يكن على وفاق تام مع السيد رئيس الحكومة الاستاذ ونيس القذافي. وهنا اروي واقعة حقيقية قد لا يعلم تفاصيلها العديد من الليبيين والليبيات…

ففي يوم ٢٩ أو بالأحرى ليلة الثلاثين من اغسطس أي قبل حدوث كارثة ايلول الأسود بيومين جمع السيد رئيس الحكومة مجلس وزرائه ليلا في مدينة البيضاء وطلب منهم اتخاذ قرار بإلغاء حالة الطوارئ التي كانت معلنة في ليبيا منذ استقالة الملك. وقد اصر السيد ونيس القذافي اصرارا غريبا على ضرورة إصدار ذلك القرار. وللحقيقة والتاريخ فإن الوزير الوحيد الذي اعترض على ذلك بشدة وبإصرار هو السيد احمد الصالحين الهوني الذي اصر على تسجيل اعتراضه في محضر تلك الجلسة الاخيرة للحكومة الملكية الليبية.

كان اعلان حالة الطوارئ داخل قوات الجيش وقوات الامن سيحول بالتأكيد دون قيام انقلاب ايلول الأسود فكل قيادات الجيش وقيادات قوات الامن العام كانت تسيطر سيطرة كاملة على كل الوحدات وعلى كل المعسكرات وكانت التحركات العسكرية والأمنية مقيدة بحالة الطوارئ المعلنة مما يستحيل معه على صغار الضباط القيام بعمل جنوني كالذي قاموا به بعد يومين من رفع حالة الطوارئ وما ترتب على ذلك من خلو معسكرات الجيش والامن العام من قياداتها وبقاء صغار الضباط وحدهم فيها دون قادتهم.  وكان قد تم إبلاغ قيادة الجيش وقيادات الامن العام في اليوم التالي بقرار إلغاء حالة الطوارئ حيث غادر الضباط العظام مواقعهم وتركوا الجنود تحت إمرة صغار الضباط. وقد كان ذلك التصرف من قبل السيد رئيس اخر حكومة ملكية في ليبيا احد اكبر الأسرار الذي يحيط بانقلاب ايلول الأسود. إذ لولا ذلك القرار لاستحال وقوع الانقلاب العسكري.

ومن سوء حظنا جميعا ان السيد ونيس القذافي رحمه الله لم يترك لنا السبب الحقيقي وراء اصراره على إلغاء حالة الطوارئ في ظل تلك الظروف العصيبة التي كان يمر بها الوطن. ولو لم يصدر ذلك القرار لكان الحال في ليبيا مختلفا جدا. رحم الله الاستاذ احمد الصالحين الهوني ذو النظر البعيد والحريص على الصالح العام للوطن وللمواطنين. 

ثم جمعنا السجن المركزي او سجن الحصان الأسود كما كان يسمى. وكثيرا ما كنّا نتحدث عن ذلك القرار وعن غيره من الأسباب التي ربما أدت الى حدوث تلك الكارثة المريعة في غرة سبتمبر عام ١٩٦٩.  وقد يكون بعض صغار ضباط الانقلاب قد علموا بموقف الاستاذ الصالحين الهوني فكان أكثرنا استدعاء لمكتب ما سمي بالادعاء العام لمحكمة الشعب.

ثم جمعنا بعد ذلك قفص الاتهام في تلك القضية السخيفة التي سُميت بقضية “تضليل الرأي العام“، والتي كان الاستاذ أحمد الصالحين الهوني هو المتهم الاًول فيها ومعنا فيه الصحفي الكبير والمرموق الصديق الاستاذ رشاد الهوني الذي قال لرئيس تلك المحكمة في شجاعة وثقة نادرين حينما اتهمته المحكمة بانه كان يتحدث كثيرا عن الملك الراحل طيب الله ثراه فأجابه الاستاذ رشاد قائلا: إن محمد وإدريس والمهدي والسنوسي كلهم اسماء اخوته. فبهت الذي كفر.

ثم شاءت الاقدار ان تجمعنا في ديار الهجرة في لندن حيث اصدر الاستاذ احمد الصالحين الهوني اول صحيفة عربية في بريطانيا اسماها “العرب” والتي لا تزال تصدر حتى اليوم بفضل اخوته وابنائه. وكنت ازوره في مكتب الجريدة في Pall Mall قرب ميدان الطرف الأغر وسط لندن.

واذكر انني اصطدمت معه في احدى تلك الزيارات . فقد قرأت  في ذلك اليوم افتتاحيته في جريدة “العرب”. وقد صب فيها جام غضبه على اللواء السوداني جعفر النميري الذي كان المرشح الوحيد للانتخابات الرئاسية السودانية في ذلك الوقت. وكان انتقاده ينصب على انفراد السيد نميري بالترشيح وعدم السماح للسودانيين الآخرين بالترشيح لمنافسته في تلك الانتخابات كما هي أصول الديموقراطية.  وإن كنت أتفق معه في ذلك إلا انني قلت له ان عليك ان تغير اسم الجريدة من “العرب” الى “الانجليز” اذا كنت جادا في هذا الطرح. !! فأين هي أصول الديموقراطية في العالم العربي الذي تنتسب اليه جريدة “العرب”.!!؟ ورغم ان الاستاذ احمد الصالحين الهوني لم يكن يقبل بسهولة من ينتقده الا انه تقبل ذلك بصدر رحب.

في ذكري رحيله نتذكر هذه القامة السياسية والإعلامية الليبية العربية ونذكره ونذكر دوره السياسي والإعلامي في العهد الملكي الزاهر وفِي عهد ليبيا الشاذ ايضا ونستمطر عليه شآبيب الرحمة والرضوان وندعو الله ان يعوض الوطن فيه خيرا. {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بداوا تبديلا} صدق الله العظيم. رحم الله الصديق الوزير الاستاذ احمد الصالحين الهوني وأكرم مثواه.

ابراهيم محمد الهنقاري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *