الخوف والتلوث والغلاء تنزع بهجة الاصطياف في ليبيا

الخوف والتلوث والغلاء تنزع بهجة الاصطياف في ليبيا

طرابلس – يعشقُ الليبيون فصل الصيف حين تتعطل المدارس، وتصير الحرارة ملائمة للتصييف والتخييم.

ومع أن في شواطئ ليبيا من المناظر ما يخطف الألباب، كان صيف السنين العشر الأخيرة مختلفا تماما، حتى أن مواقع التواصل باتت تضجُّ بمن يصرِّحون بكره هذا الفصل، وانتظار نهايته بفارغ الصبر. فما الذي تغير؟

يتحدث مراد السني أحد سكان طرابلس عن الصيف في ليبيا، قائلا “لقد أمسى ثقيل الظل (…) الحرارة ترتفع بشكل غير مسبوق حتى باتت تلامس الخمسينات مئوية أحيانا، والكهرباء تنقطع نصفَ اليوم. وإن فكرتَ في الذهاب إلى البحر مثلا؛ ستواجهك متاعب عدة، بأصناف متنوعة”.

ويضيف “قد لا تتمكن من الخروج بسبب شحّ البنزين الذي ينقطع أحيانا، وأيضا لانعدام وسائل النقل العام، وإن امتلكتَ السيارة وتوفَّرَ الوقود؛ ستفكر أكثر من مرة في وجهتك، فمياه البحر هنا ملوثة بالصرف الصحي وبشكل مخيف”.

شواطئ المدينة الصخرية في طرابلس وجهة الشباب المحبين للقفز والغطس في الماء، لكنها لا تلائم العائلات والأطفال

ويتابع “لم نر أي تحاليل أو أرقام تُذكر لتوضِّح نسبة التلوث، وإن نُشرت فهي لم تصل إلى الناس، وهذا يُضاعف المخاوف، فنحن نشاهد بأعيننا مواسير المجاري الضخمة وهي تصبُّ المخلفات البشرية مباشرة في المياه الزرقاء، ونشم بأنوفنا الروائح القذرة المنبعثة، بدل نسيم البحر المُنعش”.

والحل وِفق أغلب سكان طرابلس هو التوجه شرقاً إلى ما بعد بلدة القرة بولي أو غربا باتجاه مدينتي صبراتة وزوارة، حيث المياه أكثر نقاءً، ليس لوجود محطات تنقية، أو عدم صب المخلفات مباشرة في البحر، بل يعود السبب قلة عدد السكان هناك، وبالتالي قلة مياه الصرف المقذوفة في مياه أوسع.

ويختلف الحال مع ميسوري الحال، فأغلبهم يُسافرون صيفا إلى الشواطئ التونسية خاصة جزيرة جربة القريبة، وأيضا شواطئ مدن مثل سوسة والحمامات، ولكن مشكلة هذا الخيار تكمن في ازدحام المعبر الحدودي، فهناك قد تنتظرُ نِصفَ يومٍ للعبور. هذا مع حساب فرق العملة بين البلدين بما لا يخدم الليبيين، وبواقع 1.65 دينار ليبي لكل دينار تونسي.

واستغلالا لزيادة الطلب على أماكن للتصييف خلال السنوات الأخيرة، سارع رجال أعمال ومستثمرون صغار أيضا إلى بناء مصائف ومنتجعات سياحية وملاه بحرية على طول الساحل، ولكنها لم توفر الحل المناسب، كما أنها في صراع دائم مع مؤسسات الدولة المعنية بسبب البناء العشوائي قبالة الشواطئ دون تراخيص في بعض الأحيان، ودون دفع الضرائب والجباية في معظمها، ما جعل بعضها عرضة للهدم. هذا بالإضافة إلى مشاكل حول أسعارها أثارت استغراب الليبيين هذا الموسم، وشغلت مواقع التواصل.

ويقول أحد محبي التصييف خالد الراعي “مع الفرق بين العُملتين الليبية والتونسية، تظل الأسعار في تونس أرخص بما لا يقل عن الثلث تقريبا، هذا بالإضافة إلى تقديم المشروبات الكحولية الممنوعة في ليبيا، والتي تغري الشباب خاصةً بالتوجه هناك”.

ويضيف “في بلادنا ستدفع 70 دينارا لقاء جلسة بسيطة لأربعة أشخاص في مصيف صغير وممتلئ، وإن حجزتَ عريشة من سعف النخيل أو القماش، مع حمام مشترك ومتسخ ستدفع 150 دينارا في اليوم، دون مبيت أو تقديم أي خدمات إضافية، باستثناء نظافة الشاطئ، وركن السيارات، وبعض ألعاب الأطفال المهترئة. وكل هذا مع انعدام معايير السلامة، فباستثناء تلوث المياه، لا يتم تحديد مناطق السباحة، ولا توجد فرق لإنقاذ الغرقى، أو أبراج لرصدهم”.

السواحل الصخرية لعشاق المغامرة
السواحل الصخرية لعشاق المغامرة

ويستطرد “الخدمة في المصائف العامة القليلة أسوأ، وإن تحسنت استقطبتها مباشرة عدوى الأسعار. أما المنتجعات الخاصة الكبيرة ففيها كل ما تشتهي، لكن أسعارها تبدأ من 500 إلى 1500 دينار لليلة الواحدة، وهذا يتعدى بكثير قدرة متوسطي الحال بِدخلٍ شهري لا يتجاوز ألف دينار”.

وفي شواطئ أقصى الغرب، برز قلق جديد يتعلق بزيادة أعداد قناديل البحر.

ويقول محمد ساسي وهو أحد المهتمين بالبيئة البحرية “في السنين الماضية كانت تكثر القناديل الصغيرة الشفافة، ومع أنها مزعجة بلسعتها المؤلمة، لكنها ليست خطيرة. والآن زحفت أنواع أكبر وأخطر، أشدّها القنديل الأزرق، وقد تؤدي لسعته إلى حروق بالغة وآلام في البطن وارتفاع ضغط الدم، واضطرابات في القلب، هذا بالإضافة لاحتمال الإصابة بالشلل أو الوفاة”.

ويرجع ساسي زيادة القناديل إلى تضاؤل أعداد السلاحف البحرية التي تتغذى عليها، وذلك بسبب صيد السلاحف الجائر وأكل بيضها، والاعتداء على محيطها وأماكن وضع البيض، هذا بالإضافة إلى تأثير مجمع وميناء مليتة النفطي القريب على البيئة.

ويقول خالد الراعي “مع كل الخيارات المتاحة والقلق المصاحب، لا يستغني شباب طرابلس عن شواطئ المدينة الصخرية. وهي في العادة مقصد للشباب، دون العائلات، فشواطئها غير مناسبة للأطفال، لكنها ملائمة جدا لعشاق القفز في الماء وهواة الصيد والغطس”.

وتمتلك ليبيا ساحلا هو الأطول على المتوسط بنحو 2000 كيلومتر يضم مناطق عذراء جميلة كما في شواطئ درنة ورأس الهلال وخليج البمبة وشط البدين وسوسة والخمس وبسيس وغنيمة والقرة بوللي وجودايم وتليل ومليتة وزوارة.

ومع هذه المقومات، تتفنن الظروف في معاندة الليبيين، خاصة أثناء الصيف، حين تزداد عادة المناوشات والاشتباكات المسلحة.

من أهالي العاصمة من لا يستطيع الذهاب إلى الشاطئ بسبب شح البنزين وانعدام وسائل النقل العام
من أهالي العاصمة من لا يستطيع الذهاب إلى الشاطئ بسبب شح البنزين وانعدام وسائل النقل العام

ويروي طارق سلاّم ما حدث له وأسرته أثناء تزامن وجودهم في يوليو الماضي بمصيف “ليدو” وسط طرابلس مع اندلاع اشتباكات بين فصيلين مسلحين.

يقول “كنت وزوجتي جالسين نحتسي الشاي، وأبنائي الأربعة يمرحون غير بعيد. وفي لحظة انقلبت الأجواء تماما. اختلط صوت الرصاص مع صراخ الأطفال والنساء، وكلٌ يجري في اتجاه”. وهرع سلاّم مع زوجته يبحثان وسط الفوضى عن أبنائهما؛ بالكاد وجدا ثلاثة، ولم يعثروا على الطفلة الصغرى.

ويتابع “هرب كل من استطاع لملمة أسرته والوصول إلى سيارته، وقادتنا قوة محايدة مع البقية ودون ابتنتا للاحتماء بفندق قريب، ولم تجدِ مناشدتنا للبحث عنها أولا، بسبب تزايد الاشتباكات”.

ويستدرك “من الصعب تصوّر شعوري وزوجتي خلال ساعات انتظار توقف النار. سيناريوهات رهيبة عبرت إلى مخيلتي عن مصير ابنتي، ولم ينهها إلا إخبارنا أنها بخير، وتنتظرنا في أحد مراكز الشرطة، بعد أن أنقذها أحدهم”.

وهذه ليست الحادثة الأولى التي يتعرض لها سلاّم أثناء التصييف، فقد عَثَر مع أصدقائه في ساحل الخمس قبل عامين على جثة مشوّهة لِمهاجر أفريقي قذفتها مياه المتوسط بعد محاولة هجرة فاشلة. ويتساءل في النهاية، قائلا “هل من حقي الآن انتظار نهاية هذا الفصل؟”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *