الرقابة القبلية تلاحق مسلسل “السرايا 2” الليبي
أثار الجزء الثاني من مسلسل “السرايا” الليبي جدلا واسعا في الأوساط الاجتماعية والسياسية، فيما أعلن مخرجه أسامة رزق أنه لن يكون حاضرا في الدراما الليبية العام القادم، وقال في تدوينة على حسابه بشبكة فيسبوك “تمر اليوم 11 سنة على إخراج أحلام جميلة أحببتها وقدمتها للمشاهد الليبي على مدار 10 مواسم رمضانية”، مؤكدا أنه يتجه نحو تجربة عربية مهمة في مسيرته.
وعرضت قناة “سلام” التي تبث برامجها من تركيا ويملكها رجل الأعمال علي الدبيبة خلال النصف الأول من شهر رمضان مسلسل “السرايا 2” في 13 حلقة من تأليف سراج الهويدي وإنتاج وليد اللافي الذي كان يدير القناة قبل أن يتولى منصب وزير الدولة للشؤون السياسية والاتصال في حكومة الوحدة الوطنية.
قام ببطولة المسلسل عدد من الفنانين من بينهم محمد عثمان ونضال كحلول وشكران مرتجى وجمال صالح فريخ وواصف الخويلدي وأيوب القيب وبيار داغر ومعتصم النهار وعدد آخر من الفنانين الليبيين والعرب مع حضور مهم للوجوه التونسية مثل سفيان بن ظافر وعصام بالشيخ وعبدالقادر الدريدي وإكرام عزوز وأنور المجادي والأزهر البوعزيزي وغيرهم.
وتمحور المسلسل الذي تم تصويره في تونس حول الفترة التي تولت فيها عائلة القرمانلي الحكم، والصراع الكبير الذي وقع بين ليبيا والولايات المتحدة، وحرب السنوات الأربع التي وقعت خلال الفترة بين 1801 حتى 1805، والصراع الذي حدث بين أبناء يوسف باشا القرمانلي على حكم طرابلس.
واعتبر بعض المراقبين المسلسل تجربة مهمة في سياق التطور التدريجي للدراما الليبية منذ سبعينات القرن الماضي، وتوجها عمليا نحو الإقناع والإشعاع عربيا عبر رؤية فنية وإنتاجية احترافية متقدمة، لاسيما بعد فوز الجزء الأول بالجائزة الأولى في صنف الدراما ضمن المهرجان العربي للإذاعة والتلفزيون الذي انتُظم في الرياض العام المنقضي.
ورغم النجاح الذي حققه على مستوى نسب المشاهدة تعرض المسلسل إلى عدة انتقادات وكان محل جدل واسع وسجال حاد على أكثر من صعيد، وأحرج حكومة الوحدة ورئيسها عبدالحميد الدبيبة لأن المنتج وزير ومهندس الإعلام الأول في ليبيا، لكن أسباب التشكّي والانتقادات بدت بسيطة وأحيانا مفتعلة رغم أنه من الصعب تجاهلها نظرا إلى ارتباطها بالحساسيات القبلية والمناطقية، ومن ذلك أن منظمة نساء الطوارق طالبت بوقف المشاهد التي وصفتها بالمسيئة “لنساء الجنوب” وهي المتعلقة بجارية سمراء اللون نسبت أصولها إلى الجنوب الليبي. وقد وصفت بعدة صفات سلبية.
وقالت المنظمة إن في المسلسل جارية سمراء اللون نسبت أصولها إلى الجنوب الليبي. وقد وصفت بعدة صفات لا إنسانية ولا أخلاقية تدعو إلى الفتنة وتشويه سمعة نساء الجنوب.
وأضافت أن “شخصية ‘مبروكة’ التي نسبت إلى الجنوب الليبي وصفت بالمرأة التي تمارس السحر وأنها خبيثة وكاذبة، وأن نساء الجنوب عبر العصور التاريخية لم يكنّ جواري في البيوت، ونستغرب هذه الحملة الشنعاء على الجنوب وأهله وهذا المسلسل يثير الفتنة والعنصرية ويخصصها لأهل الجنوب”، وفق نص البيان الذي اعتبر أن المؤلف قد جانب الصواب وزوّر وقائع التاريخ.
ومن جانبهم رأى شيوخ وأعيان وحكماء ورشفانة أن المخرج والمؤلف والمنتج “تهكموا من قبيلتهم ونعتوها بالسارقة وهو ما لا يليق بأي قبيلة لها تاريخ مسطر بأحرف من نور”، وفق البيان الصادر عنهم، والذي جاء فيه أن “من وصف هذه القبيلة بهذه الأوصاف لا يعرفها جيدًا ولا يعرف تاريخها، ونعتبره أجوف وغير متابع لتاريخ القبائل العريقة”، مشددين على أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيادي وسيحاسبونه على كل حرف كتبه في حق القبيلة عاجلاً أم آجلا، داعين إلى إغلاق قناة “سلام” التي تبث المسلسل، فضلا عن إيقاف “السرايا” وسحب الحلقات السابقة التي تثير النزعة القبلية وفتح تحقيق ضد المخرج والمسلسل.
واستنكر مُعمر الضاوي آمر الكتيبة 55 مشاة الناشطة في مناطق القبيلة بشدة ما اعتبرها إساءة مسلسل “السرايا” الذي قام بإنتاجه وليد اللافي إلى أهالي ورشفانة. ووصف المسلسل بـ”العمل المسموم الذي يزور التاريخ خدمة لحقبة استعمارية غابرة، وتطاول سافر على التاريخ الليبي خدمة لمستعمر أجنبي، وتمهيدا لانتشاره في ليبيا مجددًا”.
وبعد اتهامها من القبيلة بالمسؤولية عما ورد في المسلسل، نأت وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بنفسها عن القضية، وأكدت أنها لم تطّلع مسبقا على المحتوى ولم يُؤخذ منها الإذن والموافقات اللازمة لبثه.
وأكدت الوزارة أن القنوات الإعلامية لا تتبعها، وأن الإدارة العامة للمطبوعات والمصنفات الفنية بوزارة الثقافة والتنمية المعرفية من حيث الاختصاص وفقا لقانون المطبوعات رقم (76) لسنة 1972 لم تحل إليها الإجراءات الخاصة بمراجعة المحتوى للعمل الدرامي المذكور ولم يتم أخذ الإذن والموافقات اللازمة لبثه، مشددة على ضرورة تغليب لغة العقل ووحدة الصف ولم الشمل ونبذ الفتنة وتبني الحكمة في حلحلة كل الإشكاليات.
وردت قناة “سلام” على الجدل الحاد حول المسلسل بالتأكيد على دعمها لوحدة صف الليبيين واحترامهم، وأضافت أن “المشهد في مسلسل ‘السرايا 2’ الذي أثير حوله اللغط لا يتضمن ما حمل عليه من تأويلات وتحليلات غير واقعية وهي معاكسة تماما لمضمونه ووضعه ضمن السياق الدرامي”.
وتابعت أن احترام القبائل الليبية ودرء الفتنة أولى لديها من الجدالات والنقاشات والدفاع عن وجهة النظر الأخرى.
وقامت القناة بإلغاء المشهد المثير للجدل الذي تحدّث فيه أحد شخوص العمل وهو “سليمان” عن تعرّض أشجار اللوز التي يمتلكها في مدينة ورشفانة إلى السرقة، وهو ما خلّف جدلا واسعا، واعتذر الممثل فتحي كحلول الذي جسد الدور عن الكلمات الواردة على لسانه والتي جاءت في النص الأصلي للعمل، وقال لـ”العرب” إنه تقدم بالاعتذار لمستحقيه من أهالي ورشفانة رغم أنه لم يقصد الإساءة إليهم ولا إلى تاريخهم العريق ولا إلى أدوارهم الوطنية، مشيرا إلى أن فريق المسلسل لم يقصد أبدا المساس بالقبيلة وإنما وردت المفردات في سياق حوار كان يهدف إلى تحديد المكان لا القبيلة كسكان وثقافة وتاريخ وحضور.
وتواجه الدراما رقابة اجتماعية مشددة، ما يجعل المؤلفين والمخرجين والمنتجين مطالبين بضرورة اعتماد رقابة ذاتية قبل إخراج أعمالهم إلى النور. وإذا كانت الأعمال الفنية قد تحررت من رقابة الدولة، فإنها باتت تخضع لرقابة قبلية ومناطقية وجهوية وسلفية دينية وغيرها، بما يحد من انطلاقها نحو المزيد من الإبداع والإشعاع.
وخلال الفترة الماضية أصبحت أغلب القنوات الليبية تتلافى عرض فيلم “عمر المختار” المنتح عام 1981 بعد أن حصل المجلس البلدي في مدينة غريان في أكتوبر الماضي على حكم قضائي يقضي بإلزام الدولة الليبية بالاعتذار الرسمي لأسرة الشارف الغرياني وأهالي المدينة ورد الاعتبار وحذف المقاطع المضللة والمسيئة الواردة في الفيلم.
ومنذ العام 2020 تحدث المجلس البلدي عن اتخاذ إجراءات قانونية ضد منتجي فيلم “عمر المختار” ومن شارك في إنتاجه، بدعوى “الإساءة المباشرة إلى مدينة غريان وأهلها وتشويه أحد الشخصيات السياسية الليبية المعروفة، والذي يحمل لقب مدينة غريان وهو الشارف باشا حمد الغرياني”، معتبرا أن الفيلم أظهر الغرياني “في موضع خيانة على خلاف كل المصادر التاريخية الموثوقة التي تثبت دوره التاريخي في الجهاد الليبي”، وهو ما أساء إلى غريان المدينة والقبيلة العريقة.
ويشير المراقبون إلى أن الرقابة القبلية لا تفرّق بين المعطى التاريخي والمعطى الاجتماعي ولا بين الحقيقة التاريخية والاستلهام الفني والإبداعي، وإنما ترى أنها وموطنها وأفرادها وتاريخها وحاضرها فوق الشبهات ولا يمكن الاقتراب منهم إلا بالشكر والثناء، رغم أنه لا يمكن الحديث عن مجموعة بشرية كل أبنائها معصومون من الخطأ والزلل.