الناقد الليبي نورالدين محمود سعيد: الكاتب الذي لا يعرف مجتمعه فاشل من البداية

الناقد الليبي نورالدين محمود سعيد: الكاتب الذي لا يعرف مجتمعه فاشل من البداية

حوار: الحبيب الأسود 

شهد الموسم الدرامي لهذا العام تقديم العديد من المسلسلات الليبية التي لاقت نجاحا في ليبيا وخارجها، وهذا تأكيد على أن الإنتاج الدرامي يسير إلى الأفضل رغم المصاعب الكثيرة التي تواجهه، وفي هذا الحوار مع “العرب” يكشف الناقد والأكاديمي الليبي نورالدين محمود سعيد واقع الإنتاج الدرامي اليوم في بلاده.

أكد الدكتور نورالدين محمود سعيد الناقد والباحث الليبي وأستاذ النقد والتحليل في الجامعات الليبية، أن واقع الدراما الليبية من خلال مسلسلات رمضان لهذا العام جاء متباينا لكنه يبشر بصعود دراما ليبية المذاق بالكامل، مختلفة ومحبوكة بشكل جيد، عبر سلسلة الأعمال التي بدأت تتكاثر في السنوات الأخيرة، معتبرا أن أغلبها جاء على هيئة مختبرات درامية جيدة جدا، وكفيلة بشحذ الخبرات الليبية ودفعها إلى التميز بشكل ملفت.

 بصفتك ناقدا وأكاديميا متخصصا كيف تقيّم أبرز الأعمال الدرامية الليبية لهذا العام؟

نورالدين محمود سعيد: أعتقد أن أغلب المسلسلات صارت تتنافس مع الفارق في الأساليب الإخراجية، حيث يمكن التعريج على قائمة طويلة نوعا ما من المسلسلات منها “تخاريف” للمخرج مؤيد الزابطية، و”النجدين” لهاشم الزروق، و”شط الحرية” من إخراج وتأليف فتحي القابسي، و”المتاهة” للمخرج محمد الزليطني، فقد جاءت موضوعات هذه المسلسلات وغيرها متنوعة وغير متشابهة بالمجمل، أما الناظر بدقة إلى مسلسل “السرايا” بجزئيه، فيلاحظ تركيز المخرج اهتمامه على تفاصيل تاريخية مستفيدا من تيمة مهمة جدا في تاريخ طرابلس الغرب.

في الجزء الثاني من “السرايا” مثلا، في فترة حكم يوسف باشا القرمانلي استفاد المخرج منها في تشغيل مجموعة الأفكار الدرامية التي جاء بها كاتب السيناريو سراج هويدي، وبصرف النظر عما تضمنه المسلسل من بعض الإشكاليات في الإيقاع الدرامي مثلا، إلا أنه حافظ على الكادر التاريخي لمدينة طرابلس، وروى الأحداث التي شهدتها بكافة تفاصيلها المفرحة والمرعبة والحزينة في ذات الوقت، على هيئة صور عائلية من داخل بلاط السرايا كمركز مهم لحكم القرمانليين، العائلة التركية التي “تليّبت”، بمعنى أصبحت ليبية بالكامل في ما بعد، بل كادت أن تكون مفصولة عن الباب العالي في الأستانة بتركيا الأم، وهي التي حكمت ليبيا بأقاليمها التاريخية الثلاثة.

 يمكن التوقف عند التقنيات وفخامة الصورة بالتحديد، واستخدامات الإضاءة بشكل محترف، في مسلسل تم إخراجه وتنفيذه وكتابة سيناريوه من قبل شباب ليبيين من الجيل الأخير في الدراما، إذا ما استثنينا بعض الممثلين الليبيين المخضرمين أمثال الفنان المحترف والأكاديمي المميز الدكتور حسن قرفال في الجزء الأول، والفنان والممثل القدير فتحي كحلول في الجزئين الأول والثاني، وأسماء لممثلين ليبيين كثر محترفين ولهم تاريخهم الدرامي، مما أضفى الكثير من الجدية على الأحداث، وأدى كذلك إلى الاستفادة القصوى من خبراتهم بالنسبة إلى الشباب حديثي العهد بالتمثيل، حيث أظهر هؤلاء الشباب مواهبهم الفذة، وعشقهم لما يعملون.

وبالنسبة إلى مسلسل “تخاريف” فإنه يمتاز باختلافه الكلي في الأسلوب الإخراجي، وفي موضوعه الذي ركز على إشكاليات اجتماعية ما زالت إلى يومنا هذا تسيطر على نسيج الأسرة الليبية متمثلة في ظواهر اجتماعية وممارسات غير أخلاقية من مثل السحر والجان والتعامل مع قوى خفية غريبة، إلخ، في أحداث اتسمت بسيطرة الجانب النفسي العميق داخل الشخصيات، وتحولاتها ورعبها وقلقها كشخصيات حقيقية تتعامل مع الخيال بكل تجلياته، والخرافة القديمة قدم الإنسان، وكيفية التعامل معها، خصوصاً وأنها ما زالت على أشدها في المجتمع الليبي نظرا للإيمان بها وبتجسدها حتى في وقتنا الحالي، نظرا إلى التعلق بالعقائد والموروث القديم المتخلف للأسف،

ثم مسلسل “شط الحرية” الذي يعالج موضوعه الاجتماعي دراميا برؤية إخراجية مختلفة جملة وتفصيلا، مزج بين الماضي وإرغامه في الحاضر، من خلال حياة عاشها كل الليبيين تقريبا، وهي حياة الأرياف والقرى، وأكواخ الصفيح، ومزجها بواقع ليبيا في السنوات العشر الأخيرة، والتضارب الذي يعيشه الأهالي، والظلم وشح الماء والمسكن اللائق بكرامة الإنسان.

 أما مسلسل “النجدين” للمخرج هاشم الزروق، فقد جاء بطريقة درامية وبأسلوب واقعي تماما، لدراما اجتماعية معيشة بالفعل ومعاناة كبيرة عانى منها الليبيون في فترة التغيير الذي لا يزالون يعيشون تحت تأثيراته، وإن طرأ عليها الكثير من التحسن، مسلسل يحكي واقعة اجتماعية وتمزقا أسريا لحياة شباب أبرياء تم الزج بهم في أعمال لصالح غيرهم، مستعرضا فيها المخرج التدخلات الأجنبية من خلال المؤامرات والدسائس التي تحاك ضد الشعب الليبي، لكنها مؤامرات تنفذ أحيانا من قبل أبناء الشعب أنفسهم للأسف لغياب الوعي وانتشار الطمع والفقر.

ويقترب المسلسل الرابع “المتاهة” من مسلسل “النجدين” في طرح المشكلة الاجتماعية بكل تفرعاتها، ولكن من خلال قصة درامية تغوص في الداخل أكثر متمثلة في اختطاف رضيع، ويكبر ليجد نفسه بين أحضان عائلة غريبة عنه، يلاحظ منذ البداية أنه لا يلاقي فيها اهتماما، ثم يكتشف بعد سنوات عديدة أنه مخطوف، فينتقم من خاطفيه.

 هذه المسلسلات لاقت اهتماما واسعا من كل الشرائح الاجتماعية الليبية التي تتلهف اليوم إلى ما يحاكي شواغلها اليومية، وهي تعيش هذا العام في ظل نوع من الانفراج الملحوظ في الحياة العامة مقارنة بالسنوات السابقة التي واجه فيها المجتمع الليبي مشاكل ضايقته حتى في خبزه ووسائل معيشته، من انقطاع الكهرباء إلى البنزين، إلى انقطاع الدراسة نتيجة الأزمات الأمنية التي طال أمدها، لقد اختلف حال المواطن الليبي نوعا ما عما سبق في تلك الأعوام العشرة الماضية، والحقيقة أن بناء الوعي الوطني لا يتأتى بنماذج المسلسلات فقط لأننا مازلنا نعاني من شح الإنتاج الدرامي، رغم اختلاف سياقاته، وثرائه نوعا ما مقارنة حتى بالسنوات التي سبقت الثورة والحرب الأهلية.

 تحدثتم عن العوائق التي تواجه منتجي الدراما في سعيهم نحو تطويرها وتغيير الثقافة والمفاهيم الخاطئة عنها، فهل لكم أن تحددوا تلك العوائق وما هي الطرائق الأفضل لتجاوزها؟

نورالدين محمود سعيد: بالنسبة إلى العوائق التي تحول دون الانتشار الواسع للدراما الليبية أرى أنها مركبة وكثيرة، منها ما يتعلق بالثقافة نفسها، ومنها ما يتعلق بالفكر وبالسياسة أيضا، فالأفكار الدرامية والسيناريوهات إجمالا، أثناء كتابتها، قد لا تخضع كثيرا للمخاوف أو المحظورات، لأن الإبداع في الأغلب يكون انسيابيا، أشبه ما يكون بالدفق بلا انقطاع، لكن في المراجعات تظهر للكاتب الكثير من المحاذير، فيقوم ببتر ما يمكنه قصه أو تركيبه والذي يخص العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية والأعراف الاجتماعية، إلخ.

إن الكتابة الإبداعية تبقى كتابة، وهي لن تحيد بنفسها عن السياسة أو عن علم النفس وعلم الاجتماع أيضا، حيث لا توجد كتابة تخص كاتبها، كأن يبررها بأنه كتبها لنفسه، هذا الأمر لن يستقيم أبدا، خصوصاً أثناء الكتابة الدرامية، لأنها في النهاية رسالة تنتظر المتلقي الذي ترسل إليه، مهما كان هذا الأخير في توقع الكاتب غير مقصود، ثم إن العوائق في مجملها فكرية قبل أن تكون اجتماعية أو سياسية، والفكر يخضع للتفاصيل الحياتية، لمعرفة المجتمع، والكاتب الذي لا يعرف مجتمعه هو كاتب فاشل قبل أن يبدأ في الكتابة، وسيكون إنتاجه عقيما، وإن ولد فسيولد في صورة معطوبة ومريضة وناقصة.

الكاتب الذي لا يعرف كيف يتعامل مع موروثه الاجتماعي، أو موروثه السياسي والديني أيضا، فهو ليس بكاتب، وحين يكتب بلا معرفة، إنما هو يتصيد في مياه آسنة. كيف للكاتب أو للمخرج أيضا أن يتحدث عن باريس في طرابلس، أو روما في طرابلس أو بنغازي؟ بلا معرفة للموضوع الدرامي وأهدافه، تأتي الأمور قاصرة والنتائج فاشلة من أصلها، بالضبط كمن يسمي مقهى في شارع طرابلس أو بنغازي أو سبها باسم لاتيني غريب عن الأصل.

 ما هي أبرز الأعمال التي شدت انتباهك ويمكن التعويل عليها كنماذج إيجابية قادرة على تحديد مسارات مستقبلية أفضل؟

نورالدين محمود سعيد: مما رأيت على الأقل، سأقول صراحة، إن أغلب الأعمال كانت جيدة ومتساوية في القيمة تقريبا، وهي في أغلبها كما أشرت مختبرات درامية سيكون لما بعدها أيضاً خصوصية، ربما سيتلافى المخرجون بعض هفواتها، لكن ما شد انتباهي بأمانة مسلسل “شط الحرية” بكل ما تعني الكلمة من معنى، يمكن أن نعول عليه كنموذج محترف جداً بأقل الإمكانيات، خصوصاً في أطروحته الاجتماعية والسياسية كذلك، إضافة إلى مسلسل “السرايا” مع بعض الملاحظات في إيقاعه، وعدم تحاشيه لإشكالية استخدام التاريخ بالطرق الدرامية المثلى.

 التاريخ في الدراما سيكون أكثر حساسية من التاريخ الذي يبقى مكتوباً في الوثائق، والإشكالية أن كتاب السيناريو من الشباب الليبيين المعاصرين، والذين بدأوا بأمانة يأخذون بناصية الصورة بشكل محترف، ربما غابت عنهم هذه النقطة، وهو أن التاريخ في الوثيقة هو ذاته التاريخ في الدراما، مع شرط الرؤية الإخراجية، وليس ابتداع الأحداث البعيدة، ثم نقول إن للمخرج الحق في التغيير والتلاعب بالأحداث. للمخرج الحق في الرؤية الإبداعية وليس له الحق في تغيير الحدث التاريخي بأي حال من الأحوال، هذا رأيي عموماً، وللأسف لم تتم استشارتي في ذلك، وإلا كنت أدليت للمخرج أسامة رزق بما لدي من معرفة على الأقل في إطار ما تدربنا عليه في البحث العلمي المتعلق بالدراما في مؤسساتنا الأكاديمية.

ليتك سألتني عن دور الرسائل العلمية في تنمية الذوق الفني لدى كتاب السيناريو والمخرجين، لكنت أجبتك بأكثر شمولية، ولكن سأكتفي بالقول إن التاريخ في الدراما يمكن أن نوظفه بالإبداع، شرط ألا نتدخل في الواقعة التاريخية. أسامة رزق، بأمانة، أبدع في تكوينه للوحات فنية مستوحاة من التاريخ وفق رؤيته، لكنه ربما لم يجد ما يكفي من اللوحات التشكيلية التي تم رصدها للحدث التاريخي لتلك الحقبة، ثمة أمثلة عدة في الدراما العالمية، ولعل سر نجاح الدراما السينمائية الإيطالية مثلاً، هو استخدامها للأيقونات الفنية القديمة المرسومة بالفعل في عصرها قبل 800 عام أو يزيد، تم استغلالها على أكمل وجه في الدراما الفيلمية والتلفزيونية في ذات الوقت، ونجحت من خلالها الأعمال الدرامية في استحضار التاريخ بكامل نقاوته.

 فلو أن أسامة، وقد قلت له هذه الملاحظة، كثف البحث في الرسومات أو في اللوحات الفنية لعهد القرمانلية لوجد صورا خاصة للعائلة يمكن الاستفادة منها، ولو دقق كذلك على الأقل في الرواية الليبية المحلية كما ورد في الحوليات الليبية، أو في كتاب رضوان أبوشويشة “عند باب البحر”، وكذلك في الرواية الرائعة والمهمة لإبراهيم الكوني “يعقوب وأبناؤه” والتي جاءت في ثوب إبداعي منقطع النظير، عاد فيها الكوني إلى حقبة القرمانلية بشكل رائع جداً، وأدخل فيها أحداثا مبنية على وقائع بشكل محترف وذكي، الحديث يطول في هذا الأمر، لكن المهم أن المسلسل نجح عند الكثير من مشاهديه.

كيف يمكن تفسير الاهتمام الشعبي الكبير في ليبيا ودول الجوار بمسلسل “شط الحرية”؟

نورالدين محمود سعيد: هذا هو السؤال الذي كنت أنتظره، عندما رأيت مسلسل فتحي القابسي “شط الحرية” لأول وهلة في جزئه الأول انتابني الكثير من النفور لا أخفيك، قلت ها قد عدنا إلى موضوعات لا طائل من ورائها، تجسد حياة الفقر والفاقة وأكواخ الصفيح؛ والحقيقة لم تكن لدي تلك الثقة الكبيرة في الإبداع الدرامي المحلي الليبي، خصوصاً أنه في سابق عهده لا يعول عليه إلا ما ندر.

أغلب الأعمال الليبية كانت جيدة ومتساوية في القيمة تقريبا، وهي في أغلبها مختبرات درامية سيكون لما بعدها أيضاً خصوصية

غير أن رؤية القابسي الإخراجية جاءت مختلفة عما بدا لي، لأنني حين دققت النظر في مسلسله عبر تلاحق الحلقات، وجدت أن له همّا إبداعيا وانشغالا عميقا باللغة المرئية، وإحساسا بالمسؤولية قل نظيره، خصوصاً في عمليات المعالجة الحكائية والإخراجية في آن، هو يستخدم في لوحات لقطاته كل هذه الأيقونات، المتمثلة في الأكواخ بمعادنها الصدئة، وأبوابها المخلعة، والكثير من الخيش والقماش البالي، والذي نقول عنه في لهجاتنا في الشرق وفي الغرب أيضاً “شبردق”، وكلمة “شبردق” استخدمت كثيرا في الشعر الملحمي الشعبي الليبي، الذي جسد حركة جهاد الليبيين ضد الغزو الإيطالي، كأسوأ مرحلة احتلال عاشها الجنس البشري عبر التاريخ، وهو ما دونته متون تاريخ الاستعمار من قبل الإيطاليين أنفسهم. هي أيقونات استخدمها شعراؤنا الشعبيون ليعبروا بها عن حالة تراجيديا لم يسبق للتاريخ أن رأى لها مثيلا بدايات القرن العشرين.

 لقد استخدم القابسي “العلامات” التي تؤدي فعلها الدرامي بكل هيبته حين تتحول إلى “دال ومدلول” علامات مكتوبة وغير مكتوبة، احتشدت في اللقطات وعبرت أيما تعبير عن الحالة الدرامية بشكل رمزي محترف. المخرج فتحي القابسي، بالتعاون مع مدير التصوير، وظف الأيقونة بأشكالها الباطنية المعبرة، فأنت ترى حدثا دراميا كوميديا تحوله اللغة المرئية إلى مأساة واقعية حقيقية تشير إلى مدلولها المعيش عند المشاهد، في بيته، في حاجياته، وفي احتياجاته، استخدام جاء ذكي جداً، جلب إليه كما هائلا من المشاهدة المحلية ثم فاق ذلك إلى الخروج عن المألوف.

نجح العمل في أن يأسر العدد الكبير من المشاهدين من كافة أقطارنا المجاورة، هذا هو السر، السر أيضاً في الخفة، خفة المشهد ووقعه في أعين المشاهد، خفة القيمة الإبداعية رغم ثقلها، هذا هو المقصود، وكذلك خفة الروح التي اتسم بها الممثلون في هذا المسلسل بلا استثناء، وكأنهم قد تم انتقاؤهم لهذا الغرض بالذات، فالانسجام الملحوظ في ما بينهم كَوَّن منهم أسرة عمل، وكأنهم ارتبطوا به حتى في دمائهم، لأنهم يؤدون بكامل ما أوتوا من أمانة وعشق وإصرار في إظهار ما يناط بهم من أحاسيس استخدمت بعناية فائقة.

 هل نجح مسلسل “السرايا” في تقديم صورة إيجابية عن قدرة الليبيين على تقديم دراما متقدمة من حيث أدوات صناعتها؟

نورالدين محمود سعيد: نعم نجح، بل هذا ما كان واضحا بالضبط أكثر من غيره في عناصر العمل، وأكاد أوقن أن أداء الممثل الليبي جاء أقوى من الدور المنوط به، بالأخص في الجزء الأول، لأسباب كثيرة، لعل من أهمها عمليات الاحتكاك، وتقارب الممثل الليبي بممثلين آخرين محترفين، من تونس الشقيقة مثلا، وكذلك بالفنيين التونسيين القائمين على التقنيات والديكور، إلخ.

 قلت في بداية حديثي إن “السرايا” في رأيي ليس مسلسلا فقط، بل جاء في حقيقته كمختبر درامي مهم جداً لتطوير إمكانيات الممثل الليبي، ثم وهذا الأهم لا تنقص الممثل الليبي الخبرة، بقدر ما ينقصه التشجيع عبر توفير الإمكانيات، وقد لاحظنا هذا في كل المسلسلات التي نجحت في شد المشاهد إليها، لعل من أبرزها مسلسل “زنقة الريح” الذي عرض في العامين الماضيين، وفيه خدم السيناريو كثيرا إمكانيات الممثل، وكذلك الحبكة فيه كانت محترفة، لأننا رأينا ممثلين مبهرين؛ في “السرايا” بجزئيه تكررت العملية، لكن أفلتت بعض الأشياء من بينها بعض القصور في السيناريو في الجزء الثاني، في الإيقاع الدرامي تحديدا.

 بالمقابل رأينا أسماء كان لها الفضل الكبير في إنجاح المسلسل، الدكتور حسن قرفال في دور الكيخيا الكبير، وفتحي كحلول في دور سليمان، وكذلك الممثل علي الشول الذي أدى دوره بشكل جيد لشخصية علي باشا الأب، رأينا كذلك عبدالباسط أبوقندة في دور حسن بيك، كان مبدعاً، والملفت للنظر أداء الممثلة الليبية المتميزة السيدة لبنى عبدالحميد في دور للّا حلومة، كانت رائعة، وصادقة في أداء رسالتها، بالإضافة إلى تمتعها بكاريزما خلاّقة وجذابة جداً، ثم لاحظنا يوسف باشا الذي أدى دوره الشاب محمد بن ناصر وهو ممثل ممتاز، أشكر هنا أسامة رزق على قدرته على تكييف هؤلاء الشاب بهذه الحِرفية، ممثل تصرف أمام الكاميرا بكل تلقائية وسلاسة، بل تحول إلى ذئب، وقد كتبت عنه مقالة نقدية معنونة بـ”يوسف الذئب”، يوسف الذي أوهموا والده بأن الذئب أكله، صار في هذا المسلسل، هو الذئب نفسه، مع الفارق في التشبيه بين الحكايتين طبعا.

 ثم الشاب عبدالله الفاندي في دور أحمد القرمانلي الملك المغدور، الذي قتله أخوه يوسف أمام أمهما للّا حلومة، وهو من أجمل مشاهد المسلسل، وأكثرها رعباً ودموية، أدى الفاندي دوره بعناية وإبداع، والسيدة هويدة شكري في دور عويشة، وكذلك الزرقاني، وعبدالحميد التائب، ولا ننسى الأستاذ صلاح الأحمر في إبداعه لدوره، وعبدالحميد التائب، كذلك صالح القراد وهو ممثل نبيل استطاع أن يعتمد على تلقائيته في أداء دوره كشيخ للبلد، والشاب أنور التير في دور سليم آغا، ومجموعة من الممثلين التونسيين للأسف لا تحضرني أسماؤهم، ولا أستطيع الإتيان عليهم جميعهم، حتى باقي الطاقم الذي أظنه فاق الـ55 ممثلا وممثلة، كلهم أدوا أدوارهم بثقة.

 ثم وفي الجزء الثاني لنفس السلسلة لا حظنا أكثر من 16 ممثلا وممثلة، محمد عثمان الذي أدى دور يوسف باشا بدلا من محمد بن ناصر الذي أدى نفس الدور في الجزء الأول، ونضال كحلول في دور إسماعيل استطاع أن يبرز دوره كساحر سفاح بتقنية عالية جداً، وكذلك الفنانة السورية شكران مرتجى في دور للّا مريومة، واصف الخويلدي وأيوب القيب، ورندة عبداللطيف، وهند عرفية التي أبدعت في “زنقة الريح” أيضاً، وأضفت مذاقاً خاصاً على الدراما الليبية، وغيرهم الكثير، وكلهم مبدعون في رأيي، ويجب تشجيعهم، وتوجيههم والأخذ بأيديهم، بالنسبة إلى الشباب الجدد تحديداً.

ما يهم هنا هو أن الجزء الثاني، وإن جاء في مستوى أقل من الجزء الأول من حيث التكثيف الدرامي، فإن المخرج أسامة رزق ركز فيه على حدثين مهمين كان نجح في استخراجهما من التاريخ، لعل أهمهما الحرب التي امتدت لأربع سنوات بين طرابلس والولايات المتحدة وانتهت بأسر الفرقاطة فيلاديلفيا كحدث تاريخي أدخلَ طرابلس في تاريخ القرن التاسع عشر، ودخول هذه المدينة ضمن أبيات نشيد البحرية الأميركية إلى يومنا هذا، بحيث لا يمكنه أن ينفصل من تاريخ أميركا بأسرها. إيالة صغيرة تحت مسمى طرابلس الغرب تدخل التاريخ من خلال نضالها في استرداد حقوقها من أقوى دول العالم في ذلك التاريخ من القرن التاسع عشر الميلادي، مضافا إليها التعامل الدبلوماسي الحديث المتمثل في السياسة القرمانلية من خلال ذكاء الحاكم يوسف باشا القرمانلي، نحن ننتظر في العام المقبل أن تتحول “التيمات” أو الموضوعات التاريخية إلى أسماء ليبية محلية حركت التاريخ الليبي، وهي كثيرة على كل حال، ولها تاريخها الاجتماعي والسياسي والنضالي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *