النيهوم المفكر الليبي الذي سبق عصره 

النيهوم المفكر الليبي الذي سبق عصره 

الحبيب الأسود
كاتب تونسي

«أنا لست رجلاً مهمّاً ولا صاحب سلطان.. ولكنّ إيماني بالله يجعلني أحسّ بأنّني سأظفر بصداقة كثير من الرجال الطيبين.. وقد حدث ذلك وما زال يحدث كل يوم.. وعندما تطويني غربتي وأحسّ بالألم يؤذيني من كل جانب.. أرفع رأسي إلى الله وأقول له إنّني وحيد.. أبداً لم يتخلّ الله عني.. كان يمدّني دائماً بعون ما.. بأصدقاء طيبين مثلكم.. وسوف يفعل ذلك دائماً أيضاً.. لأنّه يعلم أنّني لا أملك سواه.. ولا أريد أن أملك سواه.. أنا قويّ بإيماني.. أقوى من وحدتي وظروفي المحزنة.. وإذا التقينا في يوم ما.. فسوف أقص عليكم ما الذي يستطيع رجل وحيد مثلي أن يفعله بالإيمان وحده».

بتلك الكلمات قدم صادق النيهوم نفسه، كان رجلا ممتلئا بالإيمان والوحدة، مهموما بما حوله، متأسيا بالقلم والورقة، ليكتب وفق قوله: «لبدلة النحاس المتينة.. لأربعة آلاف ميل معبأ بالشوق والأمنيات.. للجزار وباعة العظام وسائقي عربات الأجرة والنقل.. وللخفراء والطلبة. أنا أكتب لكل من أعرفهم، وليس ثمة ما يخيفني من أي اتجاه، فالنقد لا يشعرني بالارتباك.. وإذا كان أحد لا يفهمني الآن، فسوف يأتي رجل آخر ويفهمه كل أحد على الفور . أنا لا أريد أن أحقق شيئا سوى أن أهيء مكانا لذلك الرجل القادم في الطريق.. أجعله أكثر ألفة وأعطيه فرصة ليقترب خطوتين. ما يمدّني بالقوة: أنا أعرف أنه قادم.. و أنت تعرف ذلك أيضاً».

سيكون على النيهوم أن يقضي الجانب الكبير من حياته غريبا في ملاذات عدة، وبين مدن كثيرة، هاربا من الشمس اللافحة الى الثلج الحارق، متراوحا بين أفكار وأهتمامات ورؤى وخرافات وأسئلة ومواقف ولغات وحضارات وعقائد طالما ألهمته القدرة على مواجهة قدره، بعد أن إستشرف مستقبل بلده ليبيا بعيني زرقاء اليمامة ونبوءات عراف يجيد قراءة الرمل «إن ليبيا بلد مبني من القش ويطفو فوق بحيرات من البترول فما أسهل أن تندلع النار فيه، أن تحرقه من أساسه، ولكن ذلك لن يحدث الأن لأننا لم نكتشف  النار بعد، نحن المساكين الموغلون في النار والعناد».

بعد رحيل النيهوم اكتشف الليبيون النار التي يحرقون بها بلادهم منذ سنوات، فالتطرف والإرهاب والصراع على السلطة وثقافة الغنيمة وعقلية الإقصاء والرغبة في إحتكار الثروة المتدفقة من تحت رمال الصحراء القاحلة والتدخلات الخارجية، كل تلك العناوين تزيد من إضرام لهب المعركة في البلاد، بينما «الرجال مازالوا يفهمون الوطنية باعتبارها صراخا غاضبا من إهمال الدولة وحدها، وتجميع الأكاذيب المخجلة فوق أرصفة المقاهي في أيام العطلة، والجري خلال أشهرالصيف وراء مؤجري الشقق وباعة البنات على طول ساحل الفقراء مستعرضين حصيلتهم من مدخرات ليبيا،كأن تلك النقود قد جاءت بطريق العرق الشريف» وفق تعبيره.

حتى الديمقراطية التمثيلية من خلال الأحزاب التي ظهرت في البلاد بعد 2011، إنتقدها النيهوم باكرا، هو في هذه المسألة لا يختلف عن صديقه اللدود معمر القذافي الذي كان يجتمع معه في جملة أفكار، وصلت الى حد الإعتقاد بتأثير حقيقي لكل منهما في مواقف وتجربة الثاني.

يقول النهيوم «إن الديمقراطية الحزبية ليست فكرة طرأت على عقل مفكر، بل بيئة فرضتها ظروف الثورة الصناعية، لم يكن للأوروبيين يد في اختيارها،إلا بقدر ما كانت لهم يد في اختيار جلودهم أو لون عيونهم. ورغم أن شعوبا كثيرة أخرى، قد عمدت إلى تقليدهم،فإن ذلك كان مجرد نوع من خداع البصر بوسائل المكياج المؤقت» ولكن ما الحل؟ هو يرى إن «الشعوب لا يقتلها الاستعمار ولا تحييها الحرية، ولكنّ فرص البناء المتاحة هي التي تقرر ذلك وحدها.. وليس ثمة شك أن الزمن أهمّ العوامل بالنسبة للبناء والهدم على السّواء» ف«بناء المجتمع الحر يبدأ بكسر عزلة الفرد وكسب ثقته للخروج من مخبئة النفسي» أما «الثورة فلا يحددها الشكل السياسي بل القيم الخلُقية الكامنة وراء جميع أنواع النشاط الإنساني. إنّها تحدث لكي تحقق قيما خلُقية وليس أهدافاً سياسية مجردة من هذه القيم، لكن تاريخ الثورات يشير بوضوح إلى أن الثورات احتواها دائما هدف سياسي ما وسخرها لخدمته حتى أُفرغت الثورة نفسها من محتواها الخلُقي في خدمة أغراضها السياسية».

أن نبوءات النيهوم قبل عقود هي التي جعلته يشير الى «إن ليبيا تحتاج الى مدارس ولكنها تحتاج أكثر الى حوار طويل ومتزن يتناول معظم بديهياتنا بالنقاش، يتناول سلطة الرجل وسلطة الفقيه وسلطة كبار السن» هذا الكلام موجه بالأساس فهم طبيعة مجتمع ذكوري، محكوم بثقافة دينية مزورة ، وبسلطة قبلية لم تخرج من قمقم التاريخ الملوث.

كان النيهوم نبتا بريا من أرض ليبيا المهيأة عبر التاريخ لإنتاج المواهب بكل أشكالها الإيجابية والسلبية، وكان منذ بداياته متمردا على الساطة بكل عناوينها، لكن إرتباطه بالبلاد كان واضحا حيث يخاطب أبناء وطنه قائلا: «الوطن ليس قطعة الأرض وحدها، وإذا كانت ظروفي المعقّدة قد قررت مصير ارتباطي بالأرض، فأنا لا أعتقد أن ذلك يعني اقتلاعي من تراب ليبيا، فأنا جزء منكم ولا أستطيع أن أنسى ذلك حتماً إذا أردت أن أنساه» لكنه يشير بشيء من القسوة الى الواقع بالقول «إن مستوانا الخلقي مثل بقية مستوياتنا ما يزال متأخرا رغم كل النوايا الطيبة. والمرء يستطيع أن يلتقط مليون نموذج من ليبيا لتأكيد هذه الحقيقة حتى يصاب بالقيء،فقد ساعدت ظروف الرخاء على إبراز ملامح النماذج إبرازا هائلا لا تتخطاه العين،والرخاء اختبار قاس فشل شعب ليبيا في اجتيازه حتى الآن».

ولكن هل للفكرة أن تغير الواقع في بلاد العرب؟  هنا يقول النيهوم «الزعم بأن تغيير المجتمع رهن بتغيير أفكاره، نظرية فقهية ثبت بطلانها منذ عصر ماركس على الأقل لم يكن بوسعها أن تقدم للعرب حلًا آخر، سوى أن تربطهم إلى عالم ما قبل الثورة الصناعية، وتورطهم في دعوات عقائدية متطرفة، على يد جيل بعد جيل من الأنبياء الجدد. ولعل التاريخ ما زال يخبئ للعرب أكثر من مفاجأة غير سارة، لكن محنتهم خلال حرب الخليج، سوف تظل شاهدًا كافيا على أن مائتي سنة من خطب الوعظ والإرشاد، لم تنجح في وقايتهم من شر شيطان واحد. إن تجاهل التاريخ، خطيئة عقابها أن يتجاهلك الواقع ، فالعرب الذين يتوجه إليهم الدعاة بالخطاب، ليسوا في وضع يسمح لهم بالإنصات أصلًا. إنهم – مثل ركاب طائرة مخطوفة – أمة لا تملك حق الاختيار، ولا تستطيع أن تقرر مصيرها، وليس بوسعها أن تستفيد من أية دعوة أخرى، سوى تحريضها على استعمال الحيلة، للخلاص من خاطفيها بأي ثمن، وفي أقرب فرصة ممكنة».

 ولد الصادق النيهوم في مدينة بنغازي عام 1937، ودرس جميع مراحل التعليم بها إلى أن انتقل إلى الجامعة الليبية، وتحديدا بكلية الآداب والتربية – قسم اللغة العربية، وتخرج منها عام 1961.

 كان ينشر المقالات في جريدة بنغازي بين عامي 1958-1959 ومن ثم عُين معيداً في كلية الآداب.

أعدَّ أطروحة الدكتوراه في ” الأديان المقارنة” بإشراف الدكتورة بنت الشاطيء جامعة القاهرة، وانتقل بعدها إلى ألمانيا، وأتم أطروحته في جامعة ميونيخ بإشراف مجموعة من المستشرقين الألمان، ونال الدكتوراه بامتياز و تابع دراسته في جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية لمدة عامين.

درَّس مادة الأديان المقارنة كأستاذ مساعد بقسم الدراسات الشرقية بجامعة هلنسكي بفنلندا من عام 1968 إلى 1972، وكان يجيد، إلى جانب اللغة العربية، الألمانية والفنلندية والإنجليزية والفرنسية والعبرية والآرامية المنقرضة.

تزوج عام 1966 من زوجته الأولى الفنلندية ورُزق منها بولده كريم وابنته أمينة، وكان وقتها مستقراً في هلسنكي عاصمة فنلندا.

انتقل للإقامة في جنيف عام 1976 وتزوج للمرة الثانية من السيدة (أوديت حنا) الفلسطينية الأصل ، وتوفي في جنيف يوم 15 نوفمبر 1994 ودُفن بمسقط رأسه مدينة بنغازي يوم 20 نوفمبر 1994 وأطلق الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي اسم النيهوم على دار الكتب الوطنية بمدينة بنغازي

كتب لصحيفة الحقيقة الليبية حينها، نشر أول مقالاته (هذه تجربتي أنا) مع بداية الصدور اليومي لصحيفة الحقيقة كما نشر بها:

– الكلمة والصورة

– الحديث عن المرأة

– عاشق من أفريقيا

– دراسة لديوان شعر محمد الفيتوري

نشر سنة 1967 مجموعة دراسات منها (الذي يأتي والذي لا يأتي) و(الرمز في القرآن)، وأصبح في هذة الفترة يمثل ظاهرة أدبية غير مسبوقة، وأخذ يثير اهتمام القراء، وكانت أطروحاته وأفكاره تتضمن أسلوباً مميزاً يشهد له الجميع بالحيوية والانطلاق.

في عام 1969 كتب دراسة (العودة المحزنة للبحر)، ونشر عدد من قصص الأطفال، وأهداها إلي طفله كريم، ونشر عام 1970 رواية (من مكة إلي هنا)، وفي 1973 صدر له كتاب (فرسان بلا معركة) و(تحية طيبة وبعد)، وأقام من 1974 إلي 1975 في بيروت، وكتب أسبوعيا بمجلة الأسبوع العربي، وأشرف على إصدار موسوعة (عالمنا -صحراؤنا -أطفالنا – وطننا – عالمنا)، ومن ثم صدرت رواية (القرود).

أسس دار التراث، ثم دار المختار، وأصدر سلسلة من الموسوعات أهمها(موسوعة تاريخنا – موسوعة بهجة المعرفة)، وعمل بجامعة جينيف أستاذاً محاضراً في الأديان المقارن حتى وفاته.

عام 1986 صدرت له رواية (الحيوانات)، وفي 1987 صدر له كتاب (صوت الناس)،

 عام 1988 بدأ الكتابة في مجلة الناقد منذ صدور الأعداد الأول منها في لندن. استمر بالكتابة بها إلي أن وافته المنية في عام 1994.

صدر له كتاب (محنة ثقافة مزورة) عن دار نجيب الريس في لبنان عام 1991

ساهم في الكتابة في مجلة (لا) الليبية، كما صدر له كتاب (الإسلام في الأسر) عن دار نجيب الريس بلبنان، كذلك وفي نفس الدار صدر له كتاب (إسلام ضد الإسلام). وفي عام 2001 صدر عن دار تالة الليبية كتاب (طرق مغطاة بالثلج). توفي الصادق النيهوم بمدينة جينيف السويسرية عام 1994.

من مؤلفاته : 

الرمز في القرآن دار الريس،

إسلام ضد الإسلام. دار الريس، 1995م/ لندن

الإسلام في الأسر. دار الريس، 1991م/ لندن

فرسان بلا معركة. دار الحقيقة، 1973م/ بنغازي

صوت الناس. دار الريس 1990م/ لندن

محنة ثقافة مزورة

طرق مغطاة بالثلج. دار تالة، 2001 م /طرابلس (صدر بعد وفاته – جمع وإعداد الأستاذ سالم الكبتي)

دراسة (العودة المحزنة للبحر)

الذي يأتي والذي لا يأتي

تحية طيبة وبعد. دار الحقيقة 1972م بنغازي

الحديث عن المرأة والديانات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *