الولايات المتحدة تتخذ من جنوب ليبيا المهمل أولوية

طرابلس – تروج الولايات المتحدة في الداخل الليبي لأهمية الإستراتيجية العشرية التي وضعتها كأساس لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل في هذا البلد الذي يشهد حالة انفلات منذ انهيار نظام العقيد الراحل معمر القذافي.
وتركز الإستراتيجية الأميركية التي كانت أعلنت عنها إدارة جو بايدن الشهر الماضي على الجنوب الليبي كأولوية، في ظل مخاوف جدية من تحول هذه المنطقة الغنية بالنفط إلى قاعدة خلفية للجماعات الجهادية التي تنشط في منطقة الساحل والصحراء.
ويعاني الجنوب الليبي منذ عقود من حالة من التهميش، وتفاقم الوضع خلال السنوات الماضية، دون أن تظهر السلطات الليبية جدية في تحسين أوضاع المجتمعات المحلية، ما دفع شيوخ القبائل هناك إلى التحرك والضغط مطالبين بإعلان منطقة الجنوب إقليما رابعا، يضاف إلى الأقاليم التاريخية الثلاثة (طرابلس وبرقة وفزّان).
ويرى مراقبون أن الجنوب الليبي يمثل منطقة جيوستراتيجية مهملة وهذا ما يدفع الولايات المتحدة إلى التركيز عليها، لاسيما في ظل سباق النفوذ الجاري بين القوى الغربية وروسيا على منطقة الساحل الأفريقي.
وقال مبعوث الولايات المتحدة الخاص إلى ليبيا السفير ريتشارد نورلاند إن الإستراتيجية العشرية الجديدة التي أطلقتها واشنطن مؤخرا “سوف تجلب الاهتمام بالمناطق المهمشة تاريخيا في ليبيا”.

وجاء تصريح السفير نورلاند خلال لقاء جمعه الخميس بنائب رئيس المجلس الرئاسي الليبي موسى الكوني وفق تغريدات للسفارة الأميركية لدى ليبيا.
ونقلت السفارة عن نورلاند قوله إن “لقائي بالكوني الذي سعدت به جاء لكي أجدد التأكيد على دعم الولايات المتحدة القوي لجهود الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة عبدالله باتيلي لتنظيم الانتخابات هذه السنة”.
وأضاف المسؤول الأميركي، وفق سفارة بلاده، قائلا “ناقشنا أيضا كيف أن إستراتيجية الولايات المتحدة لمنع الصراع وتعزيز الاستقرار الجديدة سوف تجلب الاهتمام بالمناطق المهمشة تاريخيا في ليبيا”، في إشارة إلى مناطق الجنوب.
وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية في الخامس والعشرين من مارس الماضي عبر موقعها الإلكتروني عن إستراتيجية مدتها 10 سنوات تنفذها واشنطن في الدول التي تمر بصراع سياسي وبينها ليبيا.
وآنذاك علقت السفارة الأميركية لدى طرابلس عبر تويتر، قائلة “في ليبيا تعتمد الخطة العشرية من خلال إستراتيجية منع الصراع وتعزيز الاستقرار على الجهود المحلية للحد من العنف في جنوب البلاد كأساس لجهد طويل الأجل لدعم عمل الشعب الليبي لبناء نظام ديمقراطي ومستقبل مستقر”.
ووفق موقع الخارجية الأميركية فإن الخطة تستهدف على المدى الطويل إقامة “سلطة منتخبة ديمقراطيا، وموحدة، ومُمثلة، ومعترف بها دوليا وقادرة على ضمان حقوق الإنسان، وتقديم الخدمات العامة، وتعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، وتأمين حدودها، وخلق شراكة مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بشأن الأولويات المشتركة”.
وتقر الخطة بالحاجة إلى نهج تدريجي ومُصمم حسب الاحتياجات وقابل للتطوير نظرا إلى عدم اليقين السياسي الحالي على المستوى الوطني والقيود العملية على مشاركة الولايات المتحدة ومساعدتها داخل ليبيا.
وتركز الخطة في المدى القريب على نهج محلي “شعبي” لدعم حكم محلي ديمقراطي يستجيب للمواطن ومبادرات مصالحة ناشئة ولكن واعدة تتم قيادتها على المستوى المحلي. وتشير إلى أن جنوب ليبيا هو النقطة المحورية لجهود أولية متعاقبة تبني بشكل تدريجي من أجل إحراز التقدم في جميع المناطق الرئيسية الثلاث في ليبيا، وفي الأقاليم الفرعية الحرجة في الساحل وغرب أفريقيا الساحلية في نهاية المطاف.
وستعمل حكومة الولايات المتحدة على زيادة المشاركة مع الجهات الفاعلة دون الوطنية والبلدية المحلية والمجتمع المدني ودعمها، لاسيما في جنوب ليبيا في البداية، التي تعمل على تعزيز المصالحة والحوارات القائمة على المجتمع المحلي وتقديم الخدمات الشاملة.
وسيشمل هذا الدعم جهودا جديدة لتعزيز الفرص الاقتصادية والشمول المالي للفئات المهمشة. وفي الوقت نفسه، ستواصل حكومة الولايات المتحدة حشد الدعم، بما في ذلك من خلال العملية السياسية التي تقودها الأمم المتحدة للتوصل إلى حل سياسي بين قادة ليبيا يمكن أن يمهد الطريق لمصالحة أوسع وانتخابات في نهاية المطاف.
وتعكس الخطة اتجاه الولايات المتحدة للعمل بشكل مباشر مع القادة المحليين في الجنوب الليبي، وهذا تحول في التعاطي الأميركي نابع من حرص على استخدام “القوة الناعمة” كأداة لتغلغل وتعزيز الحضور في المنطقة المهمشة، والتي تكتسي أهمية خاصة بحكم موقعها الجغرافي الذي يحد كلا من النيجر وتشاد.
وتؤكد الباحثة بمعهد الولايات المتحدة للسلام كورين غراف أن الخطة المرسومة تعكس مشاورات أميركية أوسع من المعتاد ومشاركة مع قطاع عريض من القادة والجماعات المنخرطين في الصراع أو المتأثرين به بشكل مباشر، لاسيما في المجتمعات المهمشة.
◙ عملية التسويق الداخلي للخطة الأميركية تندرج في سياق تقديم تطمينات لتلك القوى وحشد الدعم لإنجاح هذا المشروع
وتلفت الباحثة إلى أنه على الرغم من عدم وجود ضمان للنجاح فإن المشاركة الأميركية الموسعة مع القادة المحليين في جنوب ليبيا على سبيل المثال هي خطوة أولى مهمة نحو نهج من شأنه أن يوفر رؤية أفضل لديناميكيات الصراع ويساعد في بناء التأييد لأهداف الولايات المتحدة. كما تركز على قوات الأمن وإصلاح المؤسسات القضائية، وكلاهما مفتاح الاستقرار في المجتمعات المهمشة حيث تؤدي الانتهاكات التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية وعدم الوصول إلى المحاكم إلى إثارة المظالم.
وترى غراف أن تحسين نهج الولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار وتخفيف حدة الصراع يعزز “القوة الناعمة” للولايات المتحدة ويساعد على وقف موجة عدم الاستقرار والاستبداد في لحظة محفوفة بالمخاطر بالنسبة إلى الدول الشريكة.
ويرى متابعون أن نجاح الخطة الأميركية التي تنطلق بالأساس من الجنوب وتركز على القادة المحليين، لا يخلو من تحديات وأخطار ومنها كيفية تعاطي القوى الفاعلة والمتحكمة في المشهد الليبي مع هذا التوجه.
ويشير المتابعون إلى أن عملية التسويق الداخلي للخطة الأميركية تندرج في سياق تقديم تطمينات لتلك القوى، وحشد الدعم لإنجاح هذا المشروع. ويقول المتابعون إنه بالتوازي مع مسار تعزيز التعاون مع المجتمعات المحلية فإن واشنطن ستستمر في الضغوط من أجل إنهاء المرحلة الانتقالية الهشة التي تشهدها ليبيا على المستوى الوطني.
وتشهد ليبيا أزمة سياسية تتمثل في تصارع حكومتين على السلطة، الأولى حكومة فتحي باشاغا التي كلّفها مجلس النواب مطلع العام الماضي، والثانية حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة الذي يرفض تسليم السلطة إلا لحكومة تكلف من قبل برلمان جديد منتخب.
ولحل تلك الأزمة أطلقت الأمم المتحدة مبادرة تقضي بتشكيل لجنة من مجلسي النواب والدولة للتوافق على قاعدة دستورية تقود البلاد إلى تلك الانتخابات لكن ذلك لم يحقق. وبعد نحو عام على ذلك عادت الأمم المتحدة لإطلاق مبادرة جديدة أعلنها في السابع والعشرين فبراير الماضي المبعوث الأممي إلى ليبيا وتهدف للوصول إلى انتخابات ليبية في 2023.
وضمن الجهود للوصول إلى انتخابات أقر مجلس النواب في السابع من فبراير الماضي التعديل الـ13 للإعلان الدستوري (دستور مؤقت وضع بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي عام 2011) والذي صادق عليه مجلس الدولة في الثاني من مارس ليصبح “قاعدة دستورية” تجري عبرها الانتخابات. ووفق ذلك التعديل شكل المجلسان لجنة مشتركة “6+6” مهمتها التوافق على قوانين انتخابية عقدت أول اجتماعاتها في طرابلس الأربعاء.