دور اليهود في الفن الشعبي الليبي

دور اليهود في الفن الشعبي الليبي

عبد السلام الزغيبي

من أهم عوامل تنوع مدينة بنغازي، يأتي عامل الجذب الذي جعل منها مدينة متعددة الثقافات، أحتضنت كل الوافدين اليها من داخل ليبيا وخارجها، أكثر من غيرها من المدن الليبية، وأستقبلت كل من اثر البقاء والاستقرار في المجتمع الحضري، بدلا عن التنقل والترحال، وتحت سقائف بيوت هذه المدينة، أيضا عاشت الاقليات اليهودية الحرفية، والاقليات الصناعية والتجارية من اليونانيين والمالطيين والايطاليين والاتراك والكراغلة، وكذلك العبيد الافارقة، الذين أعتقتهم من عبوديتهم، وأطلقت العنان لابداعاتهم.

هذا التنوع السكاني الفريد لمدينة بنغازي، كان له الاثر الكبير في ازدهار الفن الشعبي الغنائي، الذي بدأه رواد الاغنية الشعبية الليبية أمثال، (رجب البكوش ،مصطفى المستيري، سالم بشون، عبد الخالق الصابري،الشريف الماقني، عبد الهادي الشعالية، رجب قدورة، وغيرهم)، حيث كانت المدينة ملتقى للشرق والغرب والجنوب المزدهر بايقاعاته المتنوعة.

وسط هذا التنوع عاشت اقلية يهودية في مدينة بنغازي، أتخذت من شوارع وسط المدينة سكنا لها وعاشت بين الناس البسطاء في شوارع (سي علي الوحيشي، والشويخات، وعثمان ابحيح، وبن عيسى، وقصر حمد)، بحسن السيرة وطيب السلوك، والشعور بالامن والامان، وكان لهم مدارسهم، (مدرسة بشارع المهدوي، وأخرى بمنطقة سيدي اخريبيش)، ومعابدهم (معبد في شارع مختار الصابري، وأخر في شارع سي سعيد).

كان للاقلية اليهودية، دورها الريادي، بحكم تحرر افرادها بعض الشئ من العادات والتقاليد (كما اعتقد) في ريادة الحركه الفنيه. وكان الناس فى بنغازى على سبيل المثال، ـ ومنذ استيطان هذه الاقلية في مدينة بنغازي، بعد خروجها من الاندلس ثم تونس ومنها الى ليبيا،ــ يستعينون ببعض النساء والرجال من يهود بنغازى لاحياء الافراح، والحفلات الغنائية.

برز منهم على سبيل الذكر لا الحصر..، دوخه، كاكى، بن نحاسى،السحنتى،الزقيني، ابن الزقيني، زكي حبيب، حاييم الصغير)، والمطربة والدرباكة المشهورة (بطة)، التي كانت تسكن في حي سوق الحشيش، وتحيى الافراح في البيوت الليبية، وكانت هناك عربة بحصان (عربية)، تنقلها من بيتها الى بيت العرس، بعد ان يتم الاتفاق على الاجر مع زوجها (خاموس)، الذي يقبض الثمن ومعه زجاجة بوخة.

ومن بين اشهر تلك الاغاني القديمة التي كانت تغنيها المطربات اليهوديات: انت يا غريفة فيك الضي… وفيك لزويل ايعز علي… فيك الخوخ… وفيك اللي صدره منفوخ… لا رضع لاجاب فروخ… أول رقد في كتره حي. ومطلع أغنية اخرى يقول: ناخذ عالمدني ونتوب… الغية بعد عزيز ذنوب. واغنية اخرى تقول: يا سيدي عمران الوافي… لايم بيني وبين اولافي.

وحسب الأستاذ السنوسى البيجو، نقلا عن عميد المسرح الليبى المرحوم رجب البكوش فى حديتَ دار بينهما فى مصيف جليانه فى بنغازى عام 1973، عن مساهمة يهود بنغازى في الفن الشعبي، ذكر سي رجب البكوش، انه كان هناك شخص يهودى يدعى (الزقينى)، وهو مطرب ممتاز يغنى فى ألأفراح، وله ابن صغير (عمره عشر سنوات)، يغنى امام والده فى ألأفراح العامره، ويعزف على ألة البيانو،ويقوم بعزف الحان شعبية ليبية، ومن اشهراغانى هذا الطفل: ع العميم ع لعميم حمره بيضى ياسلام … ع لعميم خوذ وجيب تحت الوشكه شى عجيب … نحسابه سكر وزبيب لقيته حلوى بر الشام.

ويضيف البكوش، كان هؤلاء الفنانين اليهود وبخاصة (كاكى) و(السحنتى) و(حاييم الصغير) يمتازون بسرعة البديهة فى قرض الشعر، وخاصة اثناء الغناء، وكان حاييم الصغير على سبيل المثال، يؤدى (برول) احدى اغانيه الذى يقول: (هلى ناره شاطت في… سخر زوله ياعالي). ويتابع سي رجب حديثه، وكانت لهؤلاء اليهود شهره واسعه، سبقت شهر الفنان على الشعالية، الذى وجد منهم منافسة قوية فى مجال الغناء والفن فى تلك الفترة.

وفي حديث منشور، للفنان سليمان بن زبلح، أكد أن بدايته الفنية كانت مع الفنانيين اليهود، وقال انه كان هناك مطربين يهود أحدهم أسمه السحنتي، والأخر أسمه الزقنين، وكانوا يغنوا لليهود الليبيين، وليس للعرب، وهما أساس الفن، ثم جاء بعد ذلك الشعالية، وذهب إلى الإسكندرية ورجع عازف قانون، ثم دخل بعد ذلك مع اليهود في الفن.

وتحكي الراحلة خديجة الجهمي، ذكرياتها عن، المغنية الليبية اليهودية (بطة) فتقول: “أن زوجه بطة، يدعى (خموس) له دكان قبالة (زنقة الكيش) بمنطقة سوق الحشيش ويعمل في لحام العلب، ففي ذلك الزمن في العشرينات لم تكن هناك العلب وما شابهها، وكنا كلما أشترينا طمام في (حكة) أو غيره من المؤن أسرعنا بحمل أثنين منها إلى خموس ليصقل الأولى بحيث لا تجرح الأيدي عند أستعمالها؟، ثم يحيل الأخرى إلى غطاء يمكننا من أستخدامها كعلب لحفظ التوابل كالفلفل والبزار وغيرها”.

وتضيف الراحلة الجهمي: “كنا نعرفها ببطة الدرباكة وهي أمرأة كفيفة ترافقها “نجمة” وهي أمرأة ليبية تشاركها الغناء والظلام المحدق بهما أبداً والإقامة معها في بيتها، وكلما ذهبتا للغناء في الأعراس تمتد مدة إقامتها في ذلك العرس إلى ثلاث إيام أو أكثر، لتعودا محملتين بما تجود به البيوت التي أطربتا أصحابها، فهي المطربة الوحيدة بنغازي ولا ينافسها أحد في هذا المجال”.

ومن بين أشهر شعراء اليهود، الذين عاشوا بين مدينتي بنغازي والمرج، الشاعر أربيب كليمنتي الشهير، بـ “أبـوحليقه”، وقد تغنى بشعره الذي يعتبر من فحول الشعر الشعبي الليبي، العديد من المطربين الشعبيين، ومنهم المطرب الشعبي علي الجهاني: قصيدة “لابس جديد الرنة”… ذبلهن غلا لابس جديد الرنة… سامرات ما نوم العرب ذاقنه… ما نحسبك تنسيني… في قولتك في بوي تسوى عيني… ديني علي دينك، ودينك ديني… نمشي معاك للنار قبل الجنة.. ولا حسبت رايك عادم… ولا تاخذي فيا كلام بنادم… ميتين باني، ما يكيدوا هادم … حجايج الخطا ساس الغلا هدمنه.

وقد استمر دور اليهود فى الناحية الفنية، حتى عام 1967، لينتهى دورهم تماما بعد نشوب الحرب بين أسرائيل والعرب، وهجرة الكثيرون منهم لاسرائيل وبعض الدول الاوروبية.

مرجع:

– قاموس بنغازي القديمة (عمران الجلالي).

– حديث خالد مهير مع الفنان الراحل سليمان بن زبلح.

– ملتقي اهالي بنغازي على الفيس بوك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *