ليبيا… سنوات من الملل وتدوير الفشل

ليبيا… سنوات من الملل وتدوير الفشل

علي الصراف
كاتب عراقي

لن يطول الوقت على المبعوث الدولي إلى ليبيا عبدالله باتيلي ليكتشف أن التفاوض على إقامة نظام دولي جديد، أسهل بكثير من التفاوض على إقامة نظام في ليبيا.

الفرقاء الليبيون يعقدون اجتماعات فيما بينهم منذ عقد كامل من الزمن، وداروا بها عدة مدن ودول، بينما معاهدة فرساي التي أقامت النظام الدولي بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لم يستغرق التوصل إليها، وسلسلة المعاهدات الملحقة بها، أكثر من ستة أشهر وتم توقيعها في يونيو 1919، وأنشئت على أساسها “عصبة الأمم المتحدة”.

ولو أن الحرب في أوكرانيا انتهت بالتفاوض على إقامة نظام دولي جديد، فإن الأطراف الدولية المعنية سوف تتوصل إلى اتفاق قبل أن يتوصل عبدالحميد الدبيبة إلى اتفاق مع فتحي باشاغا.

والطموحات تمضي إلى إعداد الأسس الدستورية لإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة تنهي الانقسام الراهن وتعيد توحيد “مؤسسات” البلاد ومنها القوات المسلحة، ولكن لو توافقت هذه الأطراف على إزالة أكوام القمامة في طرابلس وبنغازي من خلال شركة واحدة، فإن الأمل بأن تعكس الكرة الأرضية دورانها سوف يُصبح أملا واقعيا.

ولقد كانت هناك لجنة تدعى 5+5، حققت تقدما في “وقف إطلاق النار”، ولكن المتمعن سوف يرى أن “التقدم” كان بالأحرى “توقفا” عن محاولات كل طرف لتحقيق “تقدم” على حساب الطرف الآخر دون أي شيء آخر.

هناك انشغالات دولية وإقليمية بالأزمة الليبية إلا أنها انشغالات تدور في أفق آخر لا تشعر أطراف النزاع في ليبيا بأنها معنية به وكل ما يهمها منه هو أن تبقى محط اهتمام

كما أن هناك لجنة تدعى 6+6 منبثقة عن مجلسي “النواب” في بنغازي و”الدولة” في طرابلس، لبحث القضايا الخلافية في القوانين الانتخابية. فإذا كنت تعتقد أن هذه القضايا قد تم حلها من قبل، فأنت على صواب وخطأ. لأن اجتماعات أخرى جرت في القاهرة توصلت إلى حلها، بينما اجتماعات أخرى جرت في طرابلس لم تحلها.

وما من شيء يبرر الامتناع عن الاعتقاد بأنه ستكون هناك لجنة 7+7، و8+8، من دون أن تتوصل إلى حل، لا يريد أحد التوصل إليه، كما لا يريد أحد التوقف عن عقد الاجتماعات من أجله، كسبا للشعور بالأهمية.

ولقد جرت في 26 مارس الماضي اجتماعات في فندق ريكسوس في طرابلس بين قيادات عسكرية وميدانية تابعة للقيادة العامة وداخلية حكومة باشاغا، مع قيادات أمنية وعسكرية يمثلون “حكومة الوحدة الوطنية” المنتهية ولايتها، برئاسة الدبيبة، في العاصمة طرابلس، بحضور باتيلي، كانت استكمالا لاجتماعات جرت في تونس، وتوصلت هي الأخرى إلى تحقيق “تقدم” ولكنه النوع الذي يتطلب اجتماعات إضافية.

أما إذا كنت تعتقد أن لدى المشير خليفة حفتر مشكلة مع مرتزقة تركيا وميليشياتها، كمثل ما لدى تركيا مشكلة معه شخصيا، فأنت على صواب إذا توصلت إلى أنه لا توجد مشكلة، بدليل عودة كبرى شركات الأشغال التركية “ليماك” لتعمل في بنغازي بعد توقف دام 12 عاما. كما أنك على خطأ إذا ظننت أنه لا توجد مشكلة بدليل أن ميليشيات طرابلس الموالية لأنقرة تتمنى لو ترى مذبحة على أن ترى حفتر يترشح لرئاسة ليبيا.

عقد كامل مرّ من الزمن، والليبيون على هذه الحال. يعقدون اجتماعات ويتوصلون إلى اتفاقات ويخربونها لكي يعقدوا اجتماعات غيرها فيصنعوا دوامة تجمع بين الإحباط والأمل كما تجمع بين الإثارة والملل، حتى لم يعد من الواقعي انتظار أي شيء منهم.

وفي حين أن هناك انشغالات دولية وإقليمية بالأزمة، إلا أنها انشغالات تدور في أفق آخر، لا تشعر أطراف النزاع في ليبيا أنها معنية به. وكل ما يهمها منه هو أن تبقى محط اهتمام، وأن تتلقى دعوات لعقد اجتماعات جديدة، لحل الخلافات القديمة، وأن تحصل على حصتها من عائدات النفط.

الواقع القائم في ليبيا هو التمزق والتشرذم. ولو أن الأمم المتحدة قبلت به كحقيقة نهائية، لكانت الأوضاع سارت في اتجاه أفضل. أي من دون توقعات مبالغ فيها حول إمكانية التوصل إلى “حل”. ذلك الواقع يقول إنه لا توجد مشكلة أصلا لكي يكون لها حل. فكل طرف جالس على عرش حصته من النفوذ والمال والسلطة ولا يشعر بالحاجة إلى تغيير أي شيء. فلماذا التفاوض عليه.

من مفارقات الإثارة والملل، هو أن ما يهم الولايات المتحدة والدول الأوروبية المعنية، أن يستمر تدفق النفط، بينما وقف صادرات النفط ومنع وصول أمواله إلى المتنازعين، هو أحد أهم مداخل الحل.

ومن المفارقات الأخرى هي أن المبعوث الأممي إلى ليبيا يعتقد أنه يعمل خيرا عندما يعقد اجتماعات مع أطراف الأزمة أو يدعوها إلى لقاءات، تارة في هذا الفندق وأخرى في تلك الدولة. بينما الشيء الصحيح هو أن يجلس في مكتبه، معلنا الإهمال الشامل للجميع، وداعيا دول المنطقة والعالم إلى النظر إلى أطراف النزاع على أنها عصابات تمرد مسلح، لا يرجى منها التوافق على أي شيء، وذلك حتى تأتيه بمعاهدة فرساي جديدة لإقامة نظام دولي بين الزنتان ومصراتة.

وليبيا بلد جرائم وانتهاكات وفساد وتهريب وأعمال إرهاب. وقد أثبتت السنوات الماضية أنه لا سبيل للشفاء من هذا المرض، لأنه لا سبيل لوقف المستفيدين منه. وهؤلاء يمثلون أدوارا سياسية لا تليق بهم ولا هم يليقون لها. لأنهم ميليشياويون أصلا. والسعي لإقناعهم بطريقة عيش أخرى، مثل السعي لإقناع عصابة تتاجر بالمخدرات بأن تتاجر بالورد الجوري.

ليبيا ليست دولة أيضا. إنها كيان جغرافي عائم في الفراغ. العقيد معمر القذافي دمر كل معنى من معاني الدولة. فلما تمت الإطاحة به، لم يعثر الليبيون على شيء يرتكزون إليه. وانتهى كل طرف منهم أن أقام دولة على مقاسه الخاص. وهناك عدة دول متنازعة في طرابلس وحدها، ولكل منها رئيس. كما أن لكل بلدة سلطة خاصة بها. ما يجعلك في حاجة إلى عقد مؤتمر “دولي” لإقامة “أمم متحدة” بين شعوب وقبائل ليبيا.

هناك شيء واحد فقط هو الذي يدفع الجميع إلى الامتناع عن الدوران في هذه الدوامة، هو قطع التمويل العام والشامل عن الجميع. وسواء بقي النفط يتدفق، أو تم وقفه، فإن إنذارا يقول إن الأموال سوف تنقطع كليا، ما لم تكن هناك حكومة شرعية واحدة، سوف يزعزع عروش الراغبين بإدامة الأزمة.

عندما تم التفاوض على معاهدات فرساي وأقيم نظام عالمي جديد، نشأ نظام للانتداب يسمح للدول الاستعمارية الجديدة بأن تتولى إدارة السلطة في البلدان التي لم تكن تعرف كيف تبني دولا حديثة.

الأمم المتحدة جديرة بأن تقيم نظام انتداب مماثل في ليبيا، ريثما يتفق الليبيون على أنهم شعب واحد، وليس مجموعة أمم، وأن حكومة واحدة تكفي. فيكفوا عن مشاغلة الناس بقدرتهم الفائقة على صنع الإثارة والملل، والإحباط والفشل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *