علي مصطفى المصراتي: المفرد في صيغة الجمع

تونس – الحبيب الاسود
عاش الشيخ علي مصطفى المصراتي حياته بالطول والعرض، وعايش زمن الكبار، وشهد أبرز محطات التاريخ المعاصر لبلاده والمنطقة العربية، وقدم عشرات الكتب في القصة والتحقيق والدراسة والمقال، وكانت له بصمات واضحة في التاريخ السياسي لبلاده، كما كان من رجال الإعلام المرموقين، وكرس الجانب الأكبر من حياته مؤلفا ومحققا في تاريخ ليبيا وتراثها وسير إعلامها، حتى أن الأديب المصري الراحل الدكتور مصطفى محمود قال عنه «لا تستطيع أن تعرف أي شيء عن ليبيا دون أن تمر بكتبه».
ولد المصراتي في الإسكندرية يوم 18 أغسطس العام 1926 داخل أسرة ليبية مهاجرة، وتلقى تعليمه في منطقة بولاق في القاهرة وأكمله في جامعة الأزهر، متحصلاً على الشهادة العالية من كلية أصول الدين العام 1946، ثم شهادة التدريس العالية من كلية اللغة العربية العام 1949. وتلقى تعليمه على يد كبار علماء الأزهر طوال فترة الدراسة، ثم عمل في مجال التدريس بمدرسة للأقباط في شبرا، وهي مرحلة في حياته كانت مفعمة بالحماس والنشاط حيث شارك بالمظاهرات الشعبية التي كانت تطالب بالجلاء عن مصر، واعتقل بعد ذلك في سجن قارة ميدان.
في العام 1948 التحق المصراتي بحزب المؤتمر الوطني الليبي حال تأسيسه على يد الزعيم بشير السعداوي الذي عاد لبلاده بعد سنوات غربته، والتي كان قد عمل خلالها مستشارا سياسيا للملك عبد العزيز آل سعود، ففي العام 1946 كان السعداوي يرافق الملك في زيارة الى القاهرة، وهناك استأذنه في الاستقالة لكي يقوم بالعمل على “تجميع القوى الوطنية الليبية تحت أهداف وراية واحدة”، ليشرع مباشرة في الاتصال بزعماء طرابلس وبرقة مؤكدا لهم ضرورة التخلي عن الخلافات الإقليمية والمحلية في سبيل المصلحة الوطنية العليا مبينا« لهم أنه إذا لم يعترف الليبيون في طرابلس وبرقة بالزعامة السنوسية فإن ليبيا لن يتاح لها أن تعود إلى الوجود دولة واحدة»، وقد أطلق صرخته المدوية «لبيك يا وطني» التي استجاب لها المصراتي بقوة ليصبح واحدا من أبرز الخطباء المفوهين للحزب ومن الناشطين المؤثرين في صفوف الشعب ببلاغته وذكائه في تناول القضايا المصيرية للشعب ولا سيما قضايا الحرية والوحدة وإجلاء القوات الأجنبية، ولكن من عبث الأقدار أن الدولة الناشئة التي حلم بها بشير السعداوي ودافع عنها، حكمت في العام 1952 بإبعاده ونفيه ليظل في المنفى حتى توفي بتاريخ 17 يناير 1957 بمدينة بيروت ،بينما بقي المصراتي في طرابلس صوتا مدويا بذات المبادئ التي اعتنقها.

كان المصراتي قد قرر العودة نهائيا الى طرابلس في العام 1949 بعد قرار الأمم المتحدة الاعتراف باستقلالها، وكان أول ما شغل باله وفكره، الى جانب الدور السياسي، هو كيف ينقب في التاريخ ويبحث في سير السابقين، وكيف يوثق الأحداث ويسجل شهادات صانعيها، وخاصة في إقليم طرابلس الذي يتحدر منه، حيث أنه من قبيلة مصراتة التي كان لها سجل ثري في التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي، وأنجبت عددا مهما من رموز النضال ضد الاستعمار
كانت بدايات التجربة من خلال المقالات التي كان ينشرها في عدد من الصحف والمجلات من بينها «الأهرام» المصرية و«الرائد» و«شعلة الحرية» و«الشعب» و«هنا طرابلس» التي ترأس تحريرها في العام 1954، وفي تلك الأثناء بدأ في إصدار عدد من مؤلفاته ومنها «أعلام من طرابلس» ( 1955) و«لمحات أدبية عن ليبيا» (1956) و«إبراهيم الأسطى عمر شاعر من ليبيا» (بيروت، 1957) و«جحا في ليبيا» (طرابلس، 1958) و«صحافة ليبيا في نصف قرن» و«غومة فارس الصحراء» وتم نشرهما في بيروت في العام 1960، وهو ذات العام الذي أنتخب فيه عضوا في البرلمان كمستقل نظرا لأن النشاط الحزبي كان ممنوعا منذ العام 1952، وكان المصراتي في تلك الفترة من أبرز المعارضين للنظام الملكي والداعين لإجلاء القواعد الأجنبية عن البلاد، وبالمقابل كان من أهم الداعين للتعديلات الدستورية التي تم إقرارها في العام 1961 بخصوص توحيد البلاد ونقلها من الحكم الفيديرالي الى الحكم المركزي.
كانت نزعة الوطنية والحس القومي في زمن مده يسيطران على المصراتي الذي دخل السجن مرة في القاهرة وثلاث مرات في طرابلس بسبب مواقفه المعادية للاستعمار الأجنبي، كتب عنه الأديب الراحل محمد الزوي «في عهد الادارة البريطانيّة دخل المصراتي السجن لمواقفه الوطنيّة فما جرحه السجن بقدر ما كانت فجيعته أنه لا يوجد كتاب واحد في السجن ومن حق السجين أنّ يتعلم وأن يقرأ وأن يشرب من ينابيع المعرفة والثقافة ولو كان في زنزانةٍ كالحةِ السواد. وعندما خرج من السجن جمع ما يمكن جمعه من الكتب وعاد إلى السجن حاملاً صندوق الكتب ربّما ليؤسس أوّل مكتبةٍ ثقافيةٍ تعرفها السجون في ليبيا. وكان مدير السجن يومها ضابطًا انجليزيًا، لقد هز هذا الرقي الانساني قلب الضابط الانجليزي الذي كان يعتقد أنه حامل مشعل الحضارة الاوروبية، فكتب رسالة يحيي فيها المصراتي السجين السابق لديه بتهمة حب الوطن والدفاع عن حريته».
تعتبر حياة المصراتي نموذجا للثراء المبهج، فإلى جانب مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين كتابا، والتي ترجم عدد منها الى عدد من اللغات كالإنجليزية والإيطالية والفرنسية والصينية، تولى مسؤوليات عدة في بلاده منها رئيس اللجنة العليا لرعاية الآداب والفنون، والأمين العام لاتحاد الأدباء والكتَّاب الليبيين، ومدير الإذاعة الليبية، وأصدر وترأس تحرير جريدة الشعب، كما عمل بوزارة العدل، وأسهم في لجنة صياغة القوانين بها، ثم عمل بإدارة المطبوعات، وقدم للإذاعة عشرات البرامج والأعمال الدرامية، وكتب العديد من الأغاني، وشارك في مئات المهرجانات والتظاهرات في الداخل والخارج، وتم تكريمه في مناسبات عدة، وسمحت له تجربة عمره المديد بالتعرف عن قرب والاجتماع مع قادة وزعماء من بينهم الحبيب بورقيبة وأحمد بن بلا وعلال الفاسي وارتبط بصداقات مع مصطفى العقاد ومصطفى عبد الرازق ونجيب محفوظ ومصطفى محمود أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وأمل دنقل وأحمد رامي وأحمد أمين العالم وطه حسين الذي قال عنه أنه طموح الى الأدب الرفيع ، جانح الى الفن بامتياز، محب للقدامى، راغب في التحرر من جحود التقليد، ميال الى التجديد، حرص على الاحتفاظ بما ينفع، ويغزو العقل والروح من التراث القديم، له صدق فى اللهجة وارسال للعاطفة على سجيتها، ويشع في الكلام حرارة حلوة واخلاصا مستحبا.
ووفق ما دوّنه الكاتب المصري أنيس منصور «هُناك طريقتان لكي تعرف ليبيا كلها، أنّ تذهب اليها وأن تلتقي بالأديب الصحفي المجاهد علي مصطفى المصراتي لقد نشأ في مصر في بولاق وإذا لم يكن لك ذلك لاستطعت بسهولة أنّ تستنتج هذه الحقيقة من كثرة ما يعرفه ومن يعرفهم أيضاً، ثم روحه المرحة وسخريته الحادة ولسانه السليط وذاكرته المتربصة بكل الناس، ثق أنه أرشيف من الحوادث والنوادر والقضايا لكل الناس كأنه في حالة استعداد للدخول في أية معركة أو أية قضية.. وهو يضع كل أوراقه في جيوبه ويضع عدداً من الأقلام أيضاً،، إنه يخشى أنّ يجف ريقها.. فالذي يعرفه كثير جداً والذي يُكنّه أكثر، وهو صاحب ورئيس تحرير جريدة اسمها (الشعب) يكتبها من أولها إلى آخرها كل أسبوع ، يكتب صفحتها الأولى الجادة الملتهبة والرصينة في نفس الوقت ويكتب صفحتها الأخيرة المرِحة».
ويتابع منصور «الأستاذ علي مصطفى المصراتي، يعيش بروحه في عصر البداوة في مدينة مصراتة أو حولها ولذلك لا يستخدم وسائل المواصلات في تنقلاته وإنما يفضل السير على قدميه، لذلك احتفظ بقوامه الرشيق. ولا شيء يدل على روحه الملتهبة غير السيجار الذي لا يرفعه من فمه.. إنه يحرق ويحترق طوال الوقت.. والأستاذ علي مصطفى المصراتي، له كتب كثيرة، ومن أجل كتبه التي ألفها والتي يتمنى أن يؤلفها، قد أنشأ داراً للنشر.. هو الناشر وهو المؤلف وحتى لا يُقال إنه يؤلف وينشر لنفسه، فقد شجع عدداً من الأدباء أنّ ينشروا عنده، مهما كلفه ذلك من مال، فهو صاحب دار للنشر هو مؤلفها الأول وهو صاحب جريدة هو محررها الأول، ومتعته الوحيدة أنّ يجلس في الليل على شاطىء ميناء طرابلس، كأنه حارسه ، ويدخن الشيشة، إنها عادة قد اكتسبها، أيام كان طالباً في الأزهر، يجلس على قهوة الفيشاوي،، وقد سافر علي المصراتي إلى كل بلاد الشرق وإلى كثير من بلاد الغرب ويعرف الكثير والكثيرين، ورغم روحه الواسعة المرحة فإنّك تلمس فيه نوعاً من التعصب القبلي، أي لقبيلته هو، ولمدينته مصراتة، التي أنجبت الكثيرين من المجاهدين الليبيين،، وليبيا فيها قبائل وفيها قبيلته، فالبلاد واسعة جداً، والمسافات بالمئات والألوف من الكيلومترات، بين المدن أو بين القبائل، وأمام هذه المحيطات الرملية، لابد أنّ يتماسك أبناء هذه الجُزر الخضراء، وليبيا جنّات من الزيتون تجري من تحتها أنهار من الزيت .. زيت الزيتون وزيت البترول أيضاً ».
في 29 ديسمبر 2021 توفي المصراتي عن 95 عاما تاركا وراءه رصيدا ثريا من الإبداع في كافة مجالات الكتابة، ليسجل اسمه في ديوان الخلود، كأحد من قدموا لليبيا ما تستحق من عصارة الفكر والروح والأعصاب، ومن دافعوا عن قيم الحرية والسيادة والوطنية الصادقة، فكان جديرا بالمجد الذي إرتبط به حيا وميتا.