غدامس: ثالت أقدم مدينة مأهولة في العالم
تونس – الحبيب الاسود:
صنفت المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مدينة غدامس القديمة كثالث أقدم مدينة لا تزال مأهولة في العالم، ووضعتها في قائمة التراث العالمي منذ العام 1986، ووصف مركز التراث العالمي مدينة غدامس القديمة بالقول أنها بنيت في واحة وسميت “لؤلؤة الصحراء” وهي إحدى أقدم المدن التي قامت في حقبة ما قبل الصحراء وخير مثال على الموئل التقليدي. وتتميز هندستها المنزلية بتوزيعها الوظائف المختلفة على مختلف الطبقات: الطبقة الأرضية لتخزين المؤونة، والطبقة العائلية تشرف على ممرات مسقوفة مموهة تسمح بتنقل تحت الأرض تقريبًا في المدينة وشرفات مكشوفة مخصصة للنساء.
و يؤكد المؤرخون والرحالة أهمية المدينة كواحدة من أشهر مدن شمال افريقيا التي لعبت دورا تجاريا مهما بين شمال وجنوب الصحراء الكبرى بكونها محطة للقوافل ، فقد ذكرها المؤرخ الروماني بليني الأكبر في كتابه التاريخ الطبيعي خلال القرن الأول للميلاد، وكتب عنها “بروكيليوس القيصرى” في كتابه العمائر،
وفي القرن السادس للهجرة وصفها صاحب كتاب «الاستبصار في غرائب الأمصار» بقوله: “مدينة غدامس مدينة لطيفة قديمة أزلية، واليها ينسب الجلد الغدامسي. وبها دوامس وكهوف كانت سجونا للملكة الكاهنة التي كانت بأفريقية، وهذه الكهوف من بناء الأولين، فيها غرائب من البناء والأزاج المعقودة تحت الأرض ما يحار فيها الناظر إليها إذا تأملها، تنبئ أنها ملوك سالفة وأمم دراسة، والكمأة تعظم بتلك البلاد حتى تتخذ فيها اليرابيع والأرانب أجحارا»، ووصفها ابن خلدون في مقدمته: بأن “قصورها ذات سحر وفن وهى محطة للقوافل وباب الدخول للسودان” واعتبرها ابن الحميرى التونسي في كتابه الروض المعطار فى إخبار الأقطار: “مدينة أزلية.. وفيها غرائب البناء.. واثار ملوك سالفة.. لم تكن صحراء وإنها حصينة عامرة”.
وقال عنها ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان أن “عليها اثر بنيان عجيب” اشتهرت بتسمياتها المتعددة، عروس الصحراء، لؤلؤة الصحراء، زنبقة الصحراء بوابة الصحراء، بلاد الجلد والنحاس والتبر واللبان والعاج وريش النعام ،مشيرا الى أن في وسطها عينا أزلية وعليها أثر بنيان عجيب ، يفيض الماء فيها، ويقسمه أهل البلدة بأقساط معلومة لا يقدر أحد يأخذ أكثر من حقه وعليها يزرعون ويقصد ياقوت بذلك عين الفرس.
ويعيد الباحثون إسم غدامس الى قداموس أي بلد الجلود باللغة الرومانية أو اغداميس اي مناخ الابل كما يسميها الطوارق ، غير أن الذاكرة الشعبية تحاول أن تفسر الإسم بطريقتها، حيث يقال أن قافلة كانت تمضى فى سيرها فنزل المسافرون فى بقعة بها ماء ونخيل ليستريحوا ولما واصلوا المسير، تفقدوا بعض أمتعتهم فأنتبه أحدهم وأخبرهم قائلا بأنها فى مكان غداء أمس، ومنذ ذلك الوقت عرفت بإسم غداء أمس حتى صارت غدامس.
وبحسب نوري محمّد الأمين الأنصاري،الباحث في معهد أحمد بابا للدراسات العليا والبحوث الإسلامية بتنبكتو بجمهورية مالي ،فإن اسم غدامس يقترن بسكانها الأصليين بزناتة ( جذم ماغعيس ) ومن بطونها ورطاجنه وبني وطاس الذين يعتبرهم ابن خلدون من أقدم سكان غدامس الأصليين والطوارق الملثمين (كلتماشق) ويسمون إموشاغ باللهجة الغربية وإموهاغ أو إمازغن باللهجة الشمالية والشرقية، وينتسبون إلى عرب حمير، كما اقترن أيضا اسم تنبكت ـ جارتها في الضفة الجنوبية للصحراء الكبرى ـ بالطوارق (كلتماشق)، وهذا ما يؤكّده التاريخ والواقع والروايات الشفوية المتواترة للطوارق (كلتماشق) في الصحراء الكبرى.
وأصل اسم غدامس في الروايات الشفوية لكلتماشق (أهغيد آمنيس) وهو مركب من كلمتين بلغة تماشق: أهغيد معناه بالعربية: خذ بالقوة أي اغتصب، أو أسلب، أو أنهب، وآمنيس معناه بالعربية الجمل. ومن ثم فإنّ المصادر التاريخية تؤكّد بأنّ سكان غدامس بربر ـ أمازغن ـ اختلطوا بالعرب والأفارقة، و لهجتهم تشبه إلى حدّ بعيد اللهجات التي يتكلّمها سكان بقية الواحات كسوكنة واوجلة وسيوه، كما تشبه الطارقية ـ تماشق ـ ولهجة سكان الأطلسي والجبال على طول الشاطئ الإفريقي من البحر المتوسّط، وكل غدامسي تقريبا يفهم إلى جانب الغدامسية ـ تماشق ـ إحدى لغات وسط إفريقيا وتنتشر على وجه الخصوص الهوسا وصنغاي كما يفهم معظم الغدامسيين الطارقية ـ تماشق.
لقد اتّخذ الغدامسيون مثلهم مثل سكان بقية الشمال الإفريقي اللغة العربية في مراسلاتهم وبعض الأحيان يستخدمون أيضا الحروف العربية في كتابة الغدامسية (تماشق) وهذا يحدث في مراسلاتهم التجارية إذ أنّ الرسائل ترسل مفتوحة، ويريدون بذلك أن تبقى خفية المضمون عن منافسيهم في المدن الأخر و لنفس السبب يستعملون في كتابة أسعار البضائع أرقاما سرية ربّما كانت مأخوذة عن الليبية القديمة، وممّا يلفت النّظر أنّ الغدامسيين لا يعدّون في لغتهم(لهجتهم) أكثر من عشرة ثمّ يتابعون العدّ بالعربية، وفي عموم شمال إفريقيا لا نجد كتابة خاصة فيما عدا الليبية القديمة والهيروغليقية، والحبشية، والطارقية (تماشق)، إلاّ أنّ هذه الرّموز الكتابية لا يمكن أن تستخدم لما يزيد عن جمل قصيرة أو في كتابة أسماء ونقوش.
ويقول الباحثون أن لهجة غدامس تنتمي إلى المجموعة الزناتية ويسميها الغدامسيون {أوال نـ عديميس} بمعنى لغة غدامس أو كلام غدامس، وبحكم قدم هذه اللهجة فهي تتميز في اللحن والنبرة والنطق وببعض الكلمات العتيقة عن باقي لهجات اللغة الأمازيغية.
وقد اشار ابن خلدون إلى وجود الأمازيغية الزناتية في غدامس فقال وهو يتحدث عن قبائل زناتة التي ينحدر منها سكان غدامس الأصليون الأوائل “واللغة التي يتراطنون بها مشتهرة عن سائر رطانة البربر وموطنهم في سائر مواطن البربر ما بين غدامس والسوس الأقصى”.
ويقول د. أحمد عوض الأستاذ في معهد البحوث الأفريقية التابع لجامعة القاهرة “إن لهجة غدامس تنتمي إلى اللغة النوميدية الليبية القديمة وتسمى الفرع النوميدي الشرقي، وتشكل مجموعة واحدة مع لهجات سيوة وأوجلة وسوكنة”.
وغدامس واحة نخيل تقع جنوب غرب ليبيا في خط عرض 3.29 شرقاً 70.07 شمالاً ويحدها من جهة الشمال الحدود الليبية التونسية على بعد حوالي 9 كيلومتر وغرباً الحدود اللليبية الجزائرية على بعد 15 كيلومتر، وهي تبعد بمسافة 543 كيلومترا جنوب غرب العاصمة طرابلس ،وترتبط بها عبر طريق برية تمتد لمسافة 600 كم مرورا بجبل نفوسة (الجبل الغربي) وهي السلسلة الجبلية الممتدة من الخمس إلى نالوت ويوجد بالقرب من المدينة مهبط للطائرات (مطار محلي) تربطها رحلات دورية مع مدينة طرابلس وسبها.
ويجمع المؤرخون على أن تاريخ غدامس يعود الى 12 الف عام، وقد وجدت منحوتات ونقوش حجرية تدل على وجود حياة في المدينة وحولها منذ ما لا يقل عشرة آلاف عام.
وقد خضعت غدامس قديما لسيطرة الاغريق ثم الرومان، إلى أن دخلها العرب المسلون لأول مرة بقيادة عقبة بن نافع في العام 667 ميلادي، وفي القرن الثامن الميلادي بلغت مدينة غدامس ذروة مجدها كنقطة تجارية للقوافل المارة عبر الصحراء، وفي القرن السادس عشر خضعت غدامس لسيطرة الحكم العثماني في تونس، ثم خضعت في القرن الثامن لسيطرة الحكم العثماني في ليبيا، وفي العام 1914م وصل الإيطاليون إلى غدامس بعد احتلالهم الأراضي الليبية بثلاثة أعوام. ولكنهم لم يسيطروا عليها سيطرة كاملة الا في العام 1924م، وفي العام 1940م خضعت مدينة غدامس للسيطرة الفرنسية الى ما بعد بعد الحرب العالمية الثانية وتضررت المدينة القديمة كثيرا من جراء ذلك، و في العام 1951 تم تسليم مدينة غدامس من الحكومة التونسية إلى الحكومة الليبية، ثم في العام 1955مغادر آخر جندي فرنسي مدينة غدامس.
وينقسم سكان غدامس الى عرب وطوارق وافارقة مثّلوا نموذجا للتعايش السلمي فيما بينهم قبل أن يتم تسجيل حوادث مؤلمة بعد الاطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي في العام 2011، وتتكون المدينة من 7 أحياء، كما تنقسم إلى شوارع لكل منها تسميته ومن أهمها “شارع تصكو” و”درار” و”مازيغ” و”أولاد بالليل”.
ولبيوت غدامس معمار خاص، حيث تبنى بشكل عمودي طبق هندسة القصور الأمازيغية القديمة ،اذ يستخدم الطابق الأرضي لتخزين المواد الأساسية، والطابق الأول لسكن العائلة ويخصص السطح المفتوح للنساء، وتسمح الممرات التي تربط أسطح البيوت ببعضها بتنقل النساء بكل حرية وتحجبها عن أنظار الرجال.كما تحوى المدينة على شبكة من الممرات تحت الأرض تسمح بتنقل الأهالي.
تعاقب الحضارات
ويشير المهندس خالد مصطفي افتيته الى أن الآثار الموجودة بالواحة تدل على تعاقب الحضارات على الموقع الحالي للمدينة منذ فترة ما قبل التاريخ الجرمنتي مروراً بالعهد الروماني وحتى فترة العصور الوسطى عندما ضمت الواحة مثل بقية مدن شمال أفريقيا إلى الدولة الإسلامية في منتصف القرن السابع الميلادي. وبعد وقوعها لفترة من الزمن ضمن نفوذ الدولة العثمانية، مرت بها تجربة الاستعمار الأوروبي الحديث (الايطالي والفرنسي) الذى استمر حتى منتصف القرن الماضي.
ويقول افتيته إن مدينة غدامس القديمة من الأمثلة القليلة الباقية في ليبيا التي تعتبر نموذجاً للمدينة الإسلامية التقليدية والتي قاومت الزمن محتفظة بطابعها الأصيل المستمد من التراث العربي الإسلامي الذى يظهر في شكلها العام المتميز بالتماسك ووحدة الأجزاء. كما يظهر في تكويناتها المكانية الداخلية. فالمدينة بأكملها محاطة بسور تتخلله عدة بوابات ومقسمة إلى دورين لكل منهما وظيفة محددة. فقد شبهها البعض بمنزل وأحد كبير تتخلله في جزئه الأرضي الشوارع الضيقة المسقوفة التي هي شبيهة بالأنّفاق.
وتنقسم مدينة غدامس القديمة اجتماعياً ومكانياً إلى عشيرتين رئيسيتين هما (بنو وليد) و(وبنو وازت)، تقيم كل منهما في محلة منفصلة وتتفرع كل عشيرة إلى مجموعة من القبائل تتوزع على عدد مماثل من الشوارع أو الأحياء السكنية التي تسمى بأسماء القبائل التي تسكنها وتتوزع المساجد في هذه الأحياء السكنية مع وجود المسجد الجامع (المسجد العتيق) والسوق والساحة الفضاء المحلقة بهما في موقع متوسط هو بمثابة نواة المدينة أو مركزها الذى تتفرع منه الشوارع والطرق الملتوية, كما يشكل أيضاً الحد الفاصل بين أحياء العشيرتين الرئيسيتين.
و«عين الفرس» من أهم معالم غدامس على الإطلاق باعتبارها النواة الأولى لتكون المدينة والينبوع الوحيد الذي جعل الحياة تستمر فيها، وقد أضفى السكان أهمية أخرى على العين من خلال النظام المتبع في توزيع مياهه حيث استطاعوا استغلال كل قطرة ماء تخرج من تلك العين بوضع 5 سواقي للعين تتفاوت حجما وسعة متوالية حسابية عجيبة.
وإذا كانت مصر هبة النيل كما يقال, فمما لاشك فيه أيضاً أنّ غدامس هي هبة العين التي باتت تعرف باسم (عين الفرس)، فقيام نواة المركز العمراني الذى قامت حولة مدينة غدامس الأثرية، ما كان له أن يرى النور لولا ذلك النبع الذى نشأ لسبب جيولوجي. ربما ارتكز اساساً حول توفر نقطة ضعف أو شرخ في الطبقة الكريتاسية والتي تعلو سطح منسوب الماء الجوفي الذى ثبت أنّه لا يتوفر بوفرة إلاّ على عمق كبير من مستوى الطبقات الحاوية للمياه السطحية في العديد من الأراضي الليبية.
وجاء في كتاب «غدامس بين الماضي والحاضر» للمؤلف الليبي أحمد قاسم ضوي، أحد الباحثين المتخصصين في تاريخ مدينة المدينة أن بداية تشكل نواة أول مجتمع مدني بالمنطقة كانت على شكل تجمعات صغيرة، تتباعد في العمران المشيد على شكل قصور، تقطنها القبائل، بلغ عددها 9 قصور، وكان كل قصر مقسم إلى مجموعة البيوت المخصصة لعائلات القبيلة، ومن أشهر القصور التي أوردها الكاتب قصر ابن عمر، وقصر أمانج، وقصر أمبرين، وقصر بوشاتة، وقصر امزي، وقصر الغول، وقصر انونو، وقصر امجار، وقصر امجدول، وأغلبها أندثر ولم تتبق سوى شواهد قصر الغول أو جبل الصحابة كما يطلق عليها حالياً، الواقع غرب المدينة.