فزان: تاريخ حافل وطبيعة ساحرة
تونس – الحبيب الاسود:
تنتظر فزان عودة الأمن والاستقرار الى ليبيا بصورة نهائية، وإعادة تكريس سيادة الدولة، ليعيد العالم اكتشافها، فهي منطقة مدهشة بما فيها من عبق التاريخ وروعة الآثار وسحر الطبيعة وتعدد الثروات، وتنوع الثقافات، وزادها موقعها كجسر للتواصل بين شمال إفريقيا ووسطها ،وبين البحر والصحراء أهمية خاصة، ولاسيما في العالم القديم عندما كانت ملتقى للحضارات، فقد عرفها الفراعنة والفينيقيون والإغريق والرومان، وأسس الجرمنت فيها دولة قوية في الفترة الممتدة بين 900 قبل الميلاد و500 بعد الميلاد، وفي القرن الخامس ق م كتب المؤرخ الإغريقي هيرودوت أن الشعوب الكائنة في فزان استخدمت عربات تجرها أربعة خيول لملاحقة الغزاة.
زائر فزان، يجد نفسه أمام طبيعة تحيله الى كوكب مختلف، فالصحراء الممتدة برمال السليكا وجبال الجرانيت والصخور العملاقة والأنهار الجافة والأودية والبحيرات النادرة، تثير فيه الكثير من الفضول للعودة الى التاريخ والتشبع بثراء الطبيعة، مستظلا بتلك الواحات الوارفة التي تنتج أجود أنوع التمور، أما تحت الأرض فثروات من الغاز والنفط والماء العذب والذهب واليورانيوم والحديد وغيرها.
وقد ورد ذكر فزان في كتاب «التاريخ الطبيعي » لمؤلفه الروماني بلينيوس الأكبر، والذي دونه بين عامي 77 – 79 للميلاد، حيث تحدث عن الأحجار الثمينة التي كانت ترد من فزان وتسمى بالحجر القرطاجنّي، وهو ما يعرف اليوم بالفيروز الأخضر، وقد وجدت نماذج منه في مقابر الجرمنت، قبل أن يتم التوصل الى المقاطع التي يستخرج منها ف وهي توجد بمنطقة إيغي على بعد 300 كلم الى الشرق من منطقة «واو الناموس» المعروفة بجبل يحمل اسمها وهو جبل بركاني يبلغ ارتفاعه 565 مترا، به عدد كبير من البحيرات متعددة الألوان المنتشرة على سفحه مع النباتات.
وتشير معظم الدراسات العلمية إلى أن تسميته بـ «واو الناموس» أتت بسبب أفواج البعوض التي كانت تنتشر في المكان يعد هذا المكان محمية طبيعية لبعض الكائنات النادرة حيث اكتشف العلماء 16 نوعا جديدا من أنواع البعوض في هذه المنطقة، ويرجع بعض علماء الأنثروبولوجيا أو علم الإنسان بأن استخدام الحديد في حضارة النوق التي ظهرت في منطقة غرب أفريقيا أي وسط نيجيريا حوالي عام 1000 ق.م. واختفت بشكل غامض حوالي عام 500 م، يعود إلى بودرة الحديد المتواجدة في المنطقة الجنوبية الغربية من موقع واو الناموس.
في أوائل القرن الثالث عشر ميلادي قال ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان “فَزانُ: بفتح أوله وتشديد ثانيه وآخره نون، ولاية واسعة بين الفيوم وطرابلس الغرب وهي في الإقليم الأول وعرضه إحدى وعشرون درجة قيل: سمّيت بفَزان بن حام بن نوح بها نخل كثير وتمر كثير ومدينتها زَويلة السُودان والغالب على ألوان أهلها السواد… ” في إشارة الى الجذور الإفريقية لأغلب السكان الذين كانوا يقطنون بالمنطقة آنذاك.
وقال ابن خلدون (1332 – 1406م)، في كتابه العبر “ثم فزان وودان قبلة طرابلس، قصور متعددة ذات نخل وأنهار، وهي أول ما افتتح المسلمون من أرض أفريقية لما أغزاها عمر بن الخطاب عمرو بن العاص ثم الواحات قبلة برقة ذكرها المسعودي في كتابة، وما وراء هذه كلها في جهة الجنوب فقفار ورمال لا تنبت زرعا ولا مرعى إلى أن تنتهي إلى العرق الذي ذكرناه، ومن ورائه مجالات المتلثمين كما قلناه مفاوز معطشة إلى بلاد السودان”.
وخلال القرنين 13 و14م، كانت فزان جزءا من إمبراطورية كانم التي كانت تمتد على مساحة تشمل وفق التقسيم الجغرافي الحالي دول تشاد ونيجيريا وشرق النيجر وشمال شرق نيجيريا وشمال الكاميرون، وفي العام 1550 تشكلت دولة أولاد إمحمّد نسبة الى إلى مؤسسها الشيخ امحمد الفاسي وهو ينتمي الى الأسرة الإدريسية بالمغرب الأقصى، واتخذت من مدينة مرزق عاصمة لها، واستمر حكمها حتى العام 1813 عندما سيطر عليها العثمانيون القادمون من الشمال بعد حروب عدة، وفي العام 1911 احتلت فزان من قبل إيطاليا، إلا أن سيطرتها على المنطقة لم تكن مستقرة حتى العام 1923 حين صعدت الفاشية إلى الحكم في إيطاليا، و ووجه الإيطاليون بالمقاومة في محاولاتهم الأولى أثناء الغزو من قبل القبائل المقاومة والقوات التابعة للحركة السنوسية الصوفية، وخلال الحرب العالمية الثانية قامت قوات فرنسا الحرة بطرد القوات الإيطالية واحتلال مرزق في فزان في 16 يناير 1943، وظلت المنطقة تحت السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951، عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءا من المملكة الليبية المتحدة بعد استفتاء أجراه أبناء فزان وعلى أثره أعلن الملك ادريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة كنظام فيدرالي في 24 ديسمبر 1951، ومنذ ذلك التاريخ تولت أسرة سيف النصر حكم الاقليم فتحول مركز العاصمة من مرزق الى سبها واستمر الوضع الى العام 1963 عندما تم إلغاء النظام الفيدرالي.
تبلغ مساحة إقليم فزان الحالي 551,170 كم²، ولا يتجاوز عدد السكان 500 ألف نسمة، وأغلبهم من العرب من أبناء القبائل كأولاد سليمان والحساونة والزوية والقذاذفة والمقارحة، إضافة الى عرقيتي التبو والطوارق اللتين تتميزان بإمداداتهما في دول الجوار الإفريقي، فالتبو هم جزء من إثنية تنتشر كذلك في تشاد والنيجر والسودان، والطوارق هم أمازيغ الصحراء ممن يستوطنون الصحراء الكبرى، في جنوب الجزائر، وأزواد شمال مالي، وشمال النيجر، وشمال بوركينا فاسو.
وأكبر مدن فزان حاليا هي سبها، التي يقطنها 200,000 نسمة، أما ما تبقى من السكان (نحو 300,000 نسمة) فيعيشون في البلدات الموجودة في الواحات ضمن محافظات وادي الشاطئ، وادي الحياة، الجفرة، مرزق وغات ، وتمثل مدن منطقة الجفرة (ودّان، وسوكنة وهون) المدخل الشمالي لفزان، وتربط الإقليم بسرت ومصراتة في شمال غرب ليبيا وراس لانوف والبريقة في الشمال الشرقي ، بينما تقع براك الشاطئ والوادي المتصل بها (وادي الشاطئ) على مفرق طرق مهم آخر يربط فزان بالجبال الواقعة إلى الجنوب من طرابلس.
ويوجد بفزان عالم حافل بالآثار التي تحتاج للتنقيب والبحث والاكتشاف، ومنها الآثار المعمارية والأدوات الحجرية التي تعود إلى زمن الثقافات الأشيولينية والأثيرية (من 100 ألف إلى 30 ألف سنة ق. م)، وهناك الكثير أيضا من الصور والرسومات الصخرية، وأما سلسلة جبال أكاكوس وهي جزء من الصحراء تقع شرق مدينة غات، وتمتد شمالًا من الحدود مع الجزائر، حوالي 100 كيلومتر (62 ميل). فتضم مجموعة غنية من الفن الصخري لعصور ما قبل التاريخ، وتم إدراجها كموقع للتراث العالمي لليونسكو في عام 1985 بسبب أهمية اللوحات والمنحوتات التي يعود تاريخها إلى 12000 قبل الميلاد، وفيها تجسيد للبشر ولبعض الحيوانات مثل الخيول، الزرافات، الفيلة، النعام والجمال، وللعادات والتقاليد التي كانت سائدة وتخص الأفراح والصيد والرعي والطبخ وغيرها، كما هناك كتابات قديمة بلغة التافيناغ وهي من لغات الطوارق.
وفي منطقة الحطية، التي تبعد نحو 20 كيلومتراً عن مدينة جرمة التاريخية يوجد عشرون من الأهرامات الصغيرة بنيت قبل 3000 عام بالطين والملح والقليل من الحجر، ولا تزال الى اليوم على حالها، وقد تم اكتشافها في الخمسينيات من القرن الماضي مردومة في الرمال وقامت مصلحة الآثار بترميمها في السبعينيات، وتحدث عنها عالم الآثار الإنكليزي ديفيد ماتينغلي فقال:“لم يكن الجرمنتيون من رواد الحضارة في الصحراء الليبية فحسب بل كانوا القاعدة الرئيسية التي انطلقت منها الأفكار والمعارف الجديدة لتطويع التقنيات المنتشرة في الصحراء إرساء لقواعد المجتمعات الصحراوية وشبكات التبادل التجاري، كما أن الحفريات في المواقع الحضرية والقرى والعديد من المقابر المتراصة للغاية تكشف عن أسلوب الحياة القديمة للجرمنت وعن الزراعة في الواحات أي على النقيض من الافتراضات السابقة من أنهم رُحّل. ومن جانب آخر أوضحت عمليات ترميم القطع الأثرية أنها حضارة مستقلة تماما عن الإمبراطورية الرومانية على الرغم من تمتعها بعلاقات تبادل تجاري مربح مع الرومان”، مشيرا الى أن “مقابر الجرمنت تكشف عن طقوس للدفن متنوعة للغاية بوجود ما يزيد عن 200 ألف موقع للدفن في وادي الحياة وحدها، وكثير من الأضرحة تضمنت الفنون الرومانية والإغريقية للمقابر الهرمية وهذا يرجح اتصال الجرمنتيين بالشعوب الأخرى في الشرق والجنوب الشرقي، أيضا تم العثور على جثتين محنطتين عمرهما 2000 عام”.
وأما المؤرخ اليوناني هيرودوت صاحب مقولة « من ليبيا يأتي الجديد » فقد ذكر في «الكتاب الليبي» خلال القرن السادس قبل الميلاد أن تلك الأهرامات “بنيت كمقابر لدفن الموتى وكان شعب الجرمنت يدفنون موتاهم وهم مُمدّدين على ظهورهم، باستثناء النسامونيس أو سكان سرت الذين اعتادوا دفن موتاهم بوضعية الجلوس، فحسب معتقداتهم يجب أن يكون الإنسان جالسا لحظة خروج الروح منه وطريقة الدفن هذه كانت شائعة لدى سكان المنطقة في تلك العصور القديمة”.
وتبدو الأهرامات الليبية شبيهة بنظيراتها الموجودة في السودان وجنوب الجزائر والمغرب، وفي عام 1958، تم العثور في جبال أكاكوس على مومياء لطفل صغير أسمر البشرة، يقدر عمره بعامين ونصف العام، لُفت جثته بعناية في جلد ظبي، وقد اتخذت وضع الجنين، ونزعت أحشاؤها وغُلفت بأعشاب برية بغرض حمايتها من التعفن والتحلل، و يبلغ عمرها نحو 5600 عام، وهوما يعني أن تحنيطها سبق بنحو 1500 عام زمن التحنيط المسجل في الحضارة المصرية القديمة الذي ترجع بداياته إلى (2250 – 2750) قبل الميلاد، ما دفع العلماء إلى أعادة النظر في الاعتقاد الذي كان سائدا بأن التحنيط في القارة الإفريقية بدأ في مصر، والدفع بفرضية جديدة ترجح أن يكون مصدره إحدى الحضارات السابقة المجهولة التي نشأت في المنطقة المعروفة الآن بليبيا على مدى 20000 عام.
وقد أطلق على المومياء إسم “وان موهى جاج” أو المومياء السوداء، وقد عثرت عليها بعثة آثار إيطالية برئاسة فابريزيو موري عام 1958 أثناء التنقيب في كهف صخري صغير يقع في وادي “تشوينت” في سلسلة جبال “أكاكوس” جنوب مدينة “غات” الليبية القريبة من الحدود الجزائرية ، وهي محفوظة حاليا بمتحف السرايا الحمراء بالعاصمة طرابلس .وفي 2008 تم اكتشاف مومياء طولها 2.25 متر من قبل بعثة آثار ليبية بريطانية مشتركة بقيادة العالم الانجليزي ديفيد ما تنجلي عندما كانت البعثة تقوم بأعمال البحث والتنقيب على سفوح جبل زنككرا في أوباري عاصمة محافظة وادي الحياة، وتبين أن عمرها يبلغ سبعة آلاف عام، وهي موضوعة بوضع الجثو التي مارسها الليبيون في دفن موتاهم أكبر دليل على أن الليبيين القدماء هم من اكتشفوا تحنيط الموتى. واستعمل الليبيون أوراق النباتات مثل سعف النخيل لإتمام عملية التحنيط إضافة إلى ملح النطرون.
ويعتبر متحف جرمة الأثري أو متحف حضارة الجرمنت في مدينة جرمة الأثرية بفزان من أهم المتاحف الليبية. تم بناؤه العام 1968 وافتتح العام 1969 وأعيد توسيعه العام 1970 حيث افتتح بعدها بعام، وأعيد تأسيسه في العام 1989، وهو يحتوي على مجموعة من الرسومات والنقوش التي رسمها الإنسان القديم في ليبيا، إضافة إلى أحجار يعود تاريخها لفترة ما قبل التاريخ. ويتكون المتحف من خمسة صالات هي صالة معروضات مراحل ما قبل التاريخ، صالة آثار العصور الجرمنتية، صالة آثار العصور الإسلامية، صالة المقتنيات الشعبية الخاصة بمنطقة الجنوب وصالة عصر الجماهير.
كما يحتوي المتحف على مومياوات تعود إلى نحو 2300 عام خلت. ويصل عدد السياح الذين يزورون هذا المتحف إلى نحو 110,000 سائح في كل موسم، ويتضاعف عددهم عند إضافة من يقومون بزيارة المدينة القديمة في جرمة، وجبال أكاكوس والسياحة الصحراوية.
وتمثل بحيرة «قبر عون» الواقعة في منطقة وادي الحياة في الصحراء الكبرى الليبية، إحدى أبرز المفاجئات المثيرة التي تنتظر الزائرين، حيث تمتاز بحرارة مياهها وبملوحتها الشديدة التي تتجاوز ملوحة مياه البحار بخمسة أضعاف، في محيط يعتبر خزانا كبيرا للمياه العذبة يمكن الوصول اليها ولو من خلال النبش باليد، وترتفع من حولها واحات النخيل الباسق في أحضان كثبان الرمال الذهبية
ويبلغ عمق البحيرة 7.1مترا، ومما يعرف عنها أن من يدخلها لا يغرق فيها وإن كان لا يجيد السباحة، فالملوحة الشديدة للمياه تجعل كل شيء يطفو الي السطح ولا ينزل الى العمق ، كما أنها مصدر شفاء لكثير من الأمراض ولا سيما الأمراض الجلدية.
وتعتبر «بحيرة الطرونة» من أكثر المواقع إثارة، حيث يطغى عليها اللون الأحمر، ما جعلها تحمل كذلك إسم بحيرة دم، ويرد البعض سبب حمرة المياه الى وجود قشريات حمراء اللون داخل هذه البحيرة الغنية بمادة بيكربونات الصوديوم وهي مادة ذات استخدامات هامة في صناعات عدة فضلا عن تكلفتها المرتفعة..
وأما وادي الكواكب، فهو من أغرب ما يشاهده الإنسان على الأرض، واسمه بلغة الطوارق «وان تكوفي»، ويوجد قرب منطقة العوينات المتاخمة لجبال أكاكوس ، حيث تبدو صخور ضخمة على شكل الكواكب تشعر المشاهد وكأنه يسبح في الفضاء ، ويصل متوسط قطر كل صخرة الى خمسة أمتار وتتراص الصخور الكروية جنبا الى جنب لمسافة تقارب 30 كلم
وأما وادي مغديت المتاخم للحدود المشتركة مع الجزائر، فهو عبارة عن غابات متحجرة، وهناك من يصفها بالمدينة المتحجرة منذ عشرات الالاف من السنين، بإبداع هندسي صاغته الطبيعة ليتحول المكان الى قطعة من عوالم الخيال أو من كوكب أخر غير مكتشف، حيث لا يمكن مقارنته بأي موقع أخر مألوف، وقد تحول الى مزار سياحي مهم يسعى قاصدون لملامسة آثار الحقب المترسبة عليه ومعالم الجمال الموشومة عليه.
وتمثل الكهوف الجبلية العملاقة بمناطق غاب كتاب أساطير مفتوحا عبر الزمن، ومنها كهف الجنون، ويقال كاف الجنون، ويطلق عليه الطوارق إسم “أيندينان” وهو هو عبارة عن جبل يمتد لمسافة نصف كيلومتر طولا وشكله البارز يتكون من تكوينات صخرية، يتناقل السكان المحليون منذ آلاف السنوات أنه مسكن الجن، حتى أنه الحيوانات التي تؤوي إليه أو تحوم حوله كالغزلان والطيور لا يمكن صيدها ظنا بأنها مسكونة بأرواح الجن والأشباح، ولا يخرج الطوارق من منازلهم إلا وهم يحملون قطعا حديدية كالسكين أو السيف نظرا لأنهم يعتقدون أن الجن يخاف الحديد.
وما هذا إلا غيض من فيض الثراء الطبيعي والتاريخي في فزان.