ماذا تعرف عن الملحن الكبير علي ماهر؟

طرابلس: ولد علي ماهر في العاصمة طرابلس في العام 1945، وهناك استنشق عبير الفن والياسمين وعانق أمواج البحر وخضرة البساتين، وكان يتابع الأعمال الفنية المحلية بروحها الأصيلة ويلاحق التسجيلات الطربية القادمة من مصر وخاصة لأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وإسمهان وصالح عبد الحي وغيرهم، بالإضافة الى تعلقه بالشعر العربي والرسم والتمثيل وانتمائه الى النشاط الكشفي برعاية المرحوم علي خليفة الزائدي، وهو ما ربّى لديه ذائقة فنية ساعدت على تشكيل ملامح شخصيته، وكذلك على نجاحه الدراسي حيث حصل على شهادة الابتدائية من مدرسة المدينة القديمة ثم على شهادة الثانوية العامة في طرابلس ومنها انتقل الى بنغازي ليلتحق بجامعتها وفي نفس الوقت ليصقل موهبته في الموسيقا من خلال الدروس المسائية على يد الأستاذ خليل بكري.
تخرج علي ماهر من كلية الاقتصاد والتجارة في العام 1965، وبعودته الى طرابلس، التحق في العام 1966 بمصرف ليبيا المركزي، ثم طالب بنقله الى الإذاعة الليبية التي عينته بقسم المالية، وهناك وجد مجالا واسعا للتواصل مع الفنانين من ملحنين وشعراء ومطربين ومطربات وعازفين الى جانب الإعلاميين ومعدي ومقدمي البرامج في ظل حالة من النهضة الشاملة عرفتها البلاد في آخر أعوام نظامها الملكي، وقد ساعده ذلك المناخ العام في الاتجاه سنة 1967الى قسم الموسيقى بعد قبول انتسابه إليه كعازف وملحّن ليقدم من هناك أول ألحانه وهو «طوّالي» الذي غناه الفنان النجم آنذاك خالد سعيد عن كلمات للشاعر الغنائي مسعود القبلاوي في صياغة تتمحور حول قضية الهجرة والحنين الى الأوطان، وقد حظيت الأغنية بانتشار واسع في ليبيا وتونس وأصبحت تذاع يوميا في المحطات الإذاعية، ثم جاء العمل الثاني وهو قصيد «بلد الطيوب» لشاعر الشباب علي صدقي عبد القادر والذي أداه المطرب محمود كريم ولا يزال الى اليوم يتردد على ألسنة الليبيين كعمل فني جامع يتغنى بالوطن وينابيع السحر والجمال فيه، تلاه عمل آخر وهو أوبريت «هند ومنصور» في العام 1971 من تأليف وإخراج الروائي أحمد إبراهيم الفقيه، وبعد ذلك سافر علي ماهر إلى القاهرة لدراسة الموسيقى والمسرح ونال بكالوريوس التخصص وكذلك دبلوم دراسات عليا وعدت عام 1977 على أمل أن يتخصص في المسرح الغنائي، ولكن ذلك لم يتحقق، وفق تعبيره.
وقد كانت لماهر تجارب في الغناء في عقد السبعينيات ولكنها لم تستمر، حيث رأى أن الأفضل بالنسبة له أن يتخصص في التلحين سواء للأصوات الليبية أو للأصوات العربية التي تغنت بموسيقاه ومنها فائزة أحمد في أغنية «يلّا معانا» وعليّا التونسية في «لا القلب قلبي لا الحبيب حبيبي»، وقد اتسعت القائمة لاحقا من خلال التعامل مع الفنان الكبير وديع الصافي في أغنية «الوطن» والفنانة سعاد محمد في نشيد «المعتصم بالله» وقصيدة «قد كفاني» وفهد بلان في أغنية «تكرام»، كما لحّن للفنانة ميادة الحناوي أغنية «إيش قيمتك يا حب» كلمات مسعود القبلاوي وقصيدة « غنيت لك ولك أغني » للشاعر نوري الحميدي، وللمطربة أصالة نصري عددا من الأغاني من بينها «شط الحنان» و«شمعة وحيدة»، بالإضافة الى أصوات أخرى من بينها من تونس لطفي بوشناق ومن المغرب نعيمة سميح وعبد الهادي بالخياط الذي غنى له عدة ألحان منها: «ارحميني» و«غني لي الليلة» و«شارد في الليل» و«يوم التحرير» و«لا تقتليه» وغيرها الكثير من القصائد التي كتبها العقيد معمر القذافي بنفسه وكانت تنتج في إطار « المنوعات المختارة».
وقد تميز من خلال تجاربه مع الأصوات العربية بقدرته على تبسيط المفردات الموسيقية المحلية وتوسيع مجالات التحرك من داخلها لتكون في متناول المستمع العربي حيثما كان، ولكن دون أن تفقد ألحانه بصمتها الليبية الطرابلسية، وبذلك نجح في تشكيل خصوصيات مدرسته الفنية التي يشهد لها القاصي والداني بالأهمية، بينما كانت بعض السهام تتجه إليه بسبب تجاوزه وتحديه لما كان سائدا من هيمنة الغناء البدوي في صورته الضيقة ضمن سياقات المرحلة السياسية وخياراتها الثقافية.
وقد دخل علي ماهر في جملة من التحديات، ومنها التحدي المتعلق بالرد على نعته بالملحن المتمشرق والعاجز عن مجاراة اللون الليبي ،ليقدم جملة من الألحان التي إنتشرت بسرعة ولا تزال تمثل إضافة راقية لخزينة الأغاني الليبية ،متعاملا في ذلك مع عدد من الأصوات البارزة من بينها خالد سعيد ومحمد رشيد في أغنية «شيله يا تيار»، و محمد السليني في أغاني «أم الضفائر» و«أجاويد» و«نكرتي» وقصيدة «إن أسعدتني» وغيرها، والفنان فتحي أحمد في أغنية «قولولها» و«لومي علي»، والفنان مراد إسكندر في أغنيته الشهيرة «ودي نقي»، والفنان مصطفى طالب في أغنيتي «ننسى» و«البيعة»، بالإضافة الى الفنان خالد الزواوي وعلي الشول والفنان راسم فخري في النشيد الشهير « علي صوت الحق ينادي » ،كما قدم مع المطرب محمود كريم عددا من الأغاني بعد « بلد الطيوب » من بينها « تعيشي يا بلدي » كلمات الشاعر أحمد الحريري ،وقصيدة « قناعك » كلمات الشاعر محمد الطاهر شقليلة
قدم علي ماهر علامات فارقة في تاريخ الأغنية الليبية، ولا تزال أعماله الى حد اليوم عنوانا لثراء تجربته التي جعلت منه أحد أهم رواد الموسيقى الليبية والعربية، لكن ذلك لم يشفع له خلال السنوات الماضية، حيث واجه بعد 2011 الكثير من التجاهل والإهمال والتنكر لدوره ورصيده، مثله مثل الكثير من الفنانين والمبدعين الذي مروا بظروف مادية ومعنوية صعبة، ولم يجدوا مجالا لتقديم أعمالهم الجديدة، ولم يحظوا بالتقدير الذي يستحقونه، ليتوفى أغلبهم في مصحات دول الجوار.
وفي 30 يونيو 2022 أعلن عن وفاة الموسيقار الكبير على ماهر بعد رحلة مضنية مع المرض انتهت برحيله في احد المشافي التونسية، تاركا إرثا موسيقيا كبيرا سيبقى خالدا في ذاكرة التاريخ والإنسان والأرض التي تعلق بها.