بوادر تصحيح للعلاقات بين مصر والدبيبة

بوادر تصحيح للعلاقات بين مصر والدبيبة

محمد أبوالفضل
كاتب مصري

حاول رئيس حكومة الوحدة الوطنية في ليبيا عبدالحميد الدبيبة تحريك علاقته المجمدة مع مصر من باب الاقتصاد وعوائده، عندما أعرب عن اعتزازه بالعلاقات معها قبل أيام في أثناء تسليم ائتلاف الشركات المصرية موقع مشروع الطريق الدائري الثالث في طرابلس، متخذا الحفل مناسبة لإذابة الجليد الذي تراكم منذ إعلان القاهرة رسميا في سبتمبر الماضي سحب اعترافها بحكومته بسبب انتهاء ولايتها.

مضى نحو ستة أشهر على الموقف الشهير الذي أعلنه وزير خارجية مصر سامح شكري أمام الاجتماع الوزاري العربي بمقر الجامعة العربية في القاهرة، من دون أن تغير مصر تصورها السياسي، لكن العلاقات الاقتصادية لم تتأثر كثيرا، أو بمعنى أدق لم تصل إلى مستوى متقدم، كما كانت تخطط القاهرة.

ولم يظهر الدبيبة وحكومته ممانعة فجة لمصر أو يستخدم ورقة الاقتصاد للضغط عليها لأجل تعديل موقفها، لأنه يعلم ما يمكن أن يفضي إليه خيار الإمعان في الخصومة من متاعب، ويكفي أن جزءا مهمّا من الكهرباء التي تنير طرابلس يأتي من مصر.

بدا ظهور ائتلاف الشركات المصرية في احتفال رسمي كأنه رسالة سياسية متبادلة بين القاهرة والدبيبة، فالإعلان عن عمل شركات موفدة من الحكومة يشير إلى عدم وجود عوائق اقتصادية مع الرجل حاليا، وربما سياسية في المستقبل القريب، في ظل بحث مصر عن شراكات اقتصادية تعود عليها بعوائد مالية جيدة من العملات الصعبة.

وعبّرت كلمات الإشادة التي حواها خطاب الدبيبة عن رغبة لتصحيح الأوضاع المختلة منذ أشهر، واستعداد للتفاهم على هذه الأرضية المهمة للقاهرة، لاسيما أن حكومته لا تزال تمارس عملها ولا توجد ملامح تؤكد سحب الاعتراف منها دوليا، ولم تنكر خطة المبعوث الأممي إلى ليبيا عبدالله باتيلي دورها الفترة المقبلة.

أخفق الرهان المصري على رحيل حكومة الدبيبة من طرابلس، ولم تحصل حكومة غريمه فتحي باشاغا في بنغازي على اعتراف واسع بها، وأصبح موقف القاهرة منعزلا عما يتم التخطيط له من الأمم المتحدة وبعض القوى الكبرى المؤيدة لتوجهات باتيلي التي جعلت الدبيبة جزءا ضمنيا منها، وتم عرضها على مجلس الأمن أخيرا.

عندما سحبت القاهرة اعترافها بحكومة الوحدة الوطنية كانت تعتقد أنها سقطت عمليا بحكم انتهاء ولايتها، غير أن التطورات اللاحقة ومواقف قوى دولية مؤثرة انحازت لها، وبدا الموقف السلبي من حكومة طرابلس بلا فائدة حقيقية لأنها تواصل عملها وتتحكم في الكثير من المفاتيح الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وفي المقابل لم تحصل جبهة باشاغا التي تؤيدها مصر على اعتراف دولي واسع بها.

بات الدبيبة خيارا مستمرا بحكم الأمر الواقع ولا تجد القاهرة وسيلة لتعديل موقفها منه أو خطّا مناسبا للرجعة لو أرادت ذلك، فأيّ تغيير يحوي اعترافا باقتراف خطأ تكتيكي كانت في غنى عنه وفيه تأكيد أن قراءتها للمشهد في ليبيا غير دقيقة، وهي التي بلغ اقترابها من الأزمة وتطوراتها حد اعتراف مسؤول كبير سابقا “أنهم يعرفون أدق التفاصيل في ليبيا”، بما جعل مصر رقما يصعب أن تتجاوزه أيّ جهة.

تواجه القاهرة إشكالية النزول من أعلى الشجرة التي صعدت إليها بموقفها الحاد من الدبيبة، والذي كاد يكلفها خسائر متعددة، وأوحى للبعض أنها طرف غير محايد، عكس الخطاب الذي تتبناه ويقول دوما إنها تقف على مسافة واحدة من جميع القوى، خاصة بعد أن عدّلت رؤيتها ولم تعد علاقاتها قاصرة على الشرق الليبي.

رمى الدبيبة بورقة الاقتصاد وهو يعلم أن مصر مستعدة لتلقّفها، وبالغ في الإشادة بدورها كجارة مهمة بالنسبة إلى بلده وهو يريد مد الخيط لتسحبه وتبني عليه رؤية مغايرة، مفادها طيّ الصفحة القاتمة التي لم يدع فيها أو من يمثله للكثير من الاجتماعات التي عقدت في مصر مؤخرا، ما أرخى بظلال سلبية على مركزيته في السلطة.

تجد مصر أمورا عديدة تسير في صالح الدبيبة، وهناك الكثير من التحركات يمكن أن تنطلق الفترة المقبلة، فإذا استمرت المقاطعة معه ستظهر مصر منحازة إلى قوى أخرى مناوئة، بينما خطة الأمم المتحدة تعتبره رقما فيها، وتعدّ فرصة إزاحته وتشكيل حكومة بديلة تتولى الإشراف على الانتخابات مستبعدة، ولا تتوافر لها فرصة جيدة للنجاح.

أضف إلى ذلك أن تعقيدات الأزمة قد تجعلها تستمر في الدوران والدبيبة في القلب منها، وتفتح محاولات الإصرار على عزله الباب للمزيد من التعاون والتنسيق مع جبهات أخرى تسعى لتقويض مصالح مصر في ليبيا، بالتالي فقدان مكاسب تأمل القاهرة في تحقيقها من وراء التقارب مع أنقرة لتفكيك عناصر مهمة في الأزمة الليبية.

تقود خسارة مصر للدبيبة إلى بعثرة أوراق نجحت في تكتيلها مؤخرا بسبب التحسن الملحوظ في العلاقات مع تركيا، والحركة الظاهرة في قطار الانتخابات المراد أن يكون الوصول إليها مواتيا كي تبدأ الأزمة العد التنازلي لتجاوز مطباتها الرئيسية.

من المتوقع أن تلتقط القاهرة الإشارة الاقتصادية وتضيف إليها موقفا سياسيا يمكن من خلاله العودة إلى المربع السابق، بما يفتح الطريق نحو تخطي عقبات واجهتها حكومة الدبيبة في تطوير علاقاتها على الساحة العربية، وقللت من زيادة وتيرة تحركات القاهرة السياسية أو حصرتها في جبهات لا تستطيع تنفيذ جميع إجراءاتها على الأرض في غياب طرف مهمّ في المعادلة الليبية يقبع في طرابلس.

كل السبل تؤكد أهمية إعادة النظر في العلاقات المجمدة بين الجانبين، لأن هناك أطرافا تحقق مكاسب من هذه القطيعة، ولن يستطيع الدبيبة مواصلة دوره وهو يعلم أن القاهرة تصر على نبذه وإخراجه من التوازنات الحالية، لأنه على يقين إذا لم تتمكن مصر من تنفيذ أهدافها في مسألة عزله لن تسمح لآخرين بتنفيذ خططهم بشأن التمديد له.

تعلم مصر أن الرجل يقبض على مفاتيح اقتصادية مهمة ويمكن أن يطول بقاء حكومته داخل طرابلس لأجل غير مسمّى في ظل المراوحة التي تمر بها الأزمة الليبية، وعدم وجود إرادة حقيقية لتجاوز ما يكتنفها من إشكاليات داخلية وخارجية.

يبدو فتح المجال أمام دخول المزيد من الشركات المصرية للعمل في ليبيا خطوة اقتصادية مغلّفة بأغراض سياسية، وأداة مرحلية ربما تسهم في تهيئة الأجواء، وتوضح إلى أيّ مدى سيكون استمرار حكومته مفيد إذا أحسنت القاهرة التعامل معه، والعكس صحيح، فالمعركة على وحول ليبيا بعد انتهاء الأزمة الراهنة سوف يدور جزء معتبر منها على عتبة الاستحواذ على الاقتصاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *