وادي الانجيل أبرز معالم التراث المسيحي في شرق ليبيا 

وادي الانجيل أبرز معالم التراث المسيحي في شرق ليبيا 

ليبيا 21 – تونس – الحبيب الاسود:  غربي مدينة درنة عروس الجبل الاخضر، توجد الينابيع والعيون المتدفقة بالماء العذب الزلال من أعالي الجبال، ومنها وادي الأنجيل، حيث كان يختبئ  القديس مرقس الرسول ليكتب الإنجيل المعروف باسمه وهو واحد من الأناجيل القانونية الأربعة وواحد من الأناجيل الإزائية الثلاثة، يحكي مسيرة يسوع من المعمودية على يد يوحنا المعمدان إلى الموت والدفن واكتشاف القبر الفارغ، وينتهي إلى الحديث عن نهاية الزمان وما سيحدث عند رجوع المسيح ثم يسرد الاَحداث المتعلِّقة بآلام المسيح وموته وقيامته وصعوده إلى المجد، ويؤكِّد على مساندة المسيح لتلاميذه فيما هم ينشرون البشارة في العالم أَجمع.

ولد سمعان ارسطوبولس المعروف بإسم مرقس لابيوس (ومعناه المطرقة الليبية) في إبرياتولس، وهي منطقة برطلس الحالية، التي تقع في أحضان الطبيعة، ما بين مدينة “قورينــا/ شحات” ومدينة “أبولونيـا/ سوسة”، حيث نما وترعرع في أسرة يهودية قبل أن يهاجر معها الى بين المقدس هربا من جور الرومان، وهناك التقى بالسيد المسيح وجالسه وعاش معه، بل أنه كان من ضمن السبعين رسولًا، لذا لقبته الكنيسة: “ناظر الإله”، ثم فرّ من جديد من الاضطهاد الذي تعرض له الحواريون، وعاد الى مسقط رأسه عبر اليونان ليصبح شرق ليبيا أول موطن للدعوة المسيحية في القارة الإفريقية، ثم اتجه إلى الإسكندرية حيث أسس الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وقد كان أول بطريرك لها الى أن قتله الرومان عام 68 م، ونقلوا جثمانه الى روما، وبعد 1900 عام استعادت الكنيسة القبطية رفاته عام 1968 وأودع مزاره الحالي تحت الهيكل الكبير في شرقية الكاتدرائية، وتم في صباح الأربعاء 26 يونيو 1968 الاحتفال بإقامة الصلاة على روحه على مذبح الكاتدرائية المرقسية.

ويوجد في منطقة الجبل الأخضر بشرق ليبيا ، عدد مهم من الأثار المسيحية تعود الى المسيحيين الاوائل الفارين من اضطهاد الإمبراطورية الرومانية، والذين قاموا بحفر الكهوف وتوسعتها بالقرب من العيون والينابيع سواء للسكن أو للصلاة والخلوات الروحية، ومنها نبع القديس بوقا، و«أم العمود» وهو نبع كان يستخدم لتعميد الأطفال الصغار بمياه النبع.

ويعود الفضل في اكتشاف الأثار المسيحية في الجبل الأخضر الى الأثري الليبي الكبير داود الحلاق الذي ولد في قرية صمبر شمال شحات عام 1942، وعاش طفولته هناك في اسرة متواضعة ودرس في درنة، ونال الثانوية، والتحق بكلية الاداب بالجامعة الليبية ببنغازي، وعين عام 1973 مديرا للمركز الثقافي في مدينة شحات وطور من أعماله ونشاطه، قبل أن ينتبه إلى أهمية وثراء تاريخ ليبيا، فكتب عنه وعمل في مجال الاثار باحثا مرموقا، لذلك تعد مؤلفاته عن الكهوف ومعلقات الجبل ومرقس وعمود السماء وغيرها من المرجعيات المهمة والدراسات الموثقة التي اعتمدت البحث والاستدلال والرحلات الشخصية الميدانية.

قاد الحلاق حملة استكشافية لكهوف الجبل الأخضر مكونة من فريق محلي متطوع، استمرت ثلاثة اعوام ما بين 1985 و1987، واثمرت عن اكتشاف حوالي مائة كهف معلق مجهول، صعدوا اليها من أسفل الجبل أو نزلوا اليها من قممه بواسطة الحبال والبكرات وغيرها من أدوات التسلق. وتمكنوا من جمع كنوز أثرية هائلة تكشف طرق عيش الليبيين القدامى، وقد شكلت حصيلتها متحفا تراثيا ثريا.

وعن اكتشافه وادي الإنجيل ،تحدث الحلاق قائلا: «خلال  طيران الفريق في هليكوبتر عبر أحد الأودية شاهدنا منظرا لم نعتد مثله بين الكهوف، كان مقرا محفورا في واجهة صخرية سحيقة، وكان اتساع المقر وتعدد أدواره يوحي بصورة جلية انه بقعة أثرية وانه يختلف عما ألفناه».

ولما سأل الحلاق الأهالي عن ذلك الكهف أجابوه بأنه معروف عندهم بإسم «وادي مرقس» فعاد للخرائط الجغرافية ليجده مسجلا بنفس الاسم، واستغرب من أن احداً لم يبحث عن سبب التسمية من قبل، ولم يتمكن وفريقه، من الصعود اليه واكتشافه الا بعد عامين من مشاهدته من الجو.

في العام 1987، استطاع الحلاق الصعود الى الكهف بعد عناء شاق ، ليجد نفسه ومن معه داخل بناء مركزي مكون من ثلاثة طوابق اسماه فيما بعد “صرح مرقس الإنجيلي“ وهو محفور بين الصخور وكان الطابق الأخير له طريق يصله بالثاني وقد صار بسبب عوامل التعرية غير قابل للاستخدام‏ ،ووجد به رموزا مسيحية وصهريجا صخريا ضخما لحفظ المياه، ومعاصر زيوت وممرات ومداخل سرية ونقوشا ورسومات دينية عن صلب المسيح. وفي أحد أدوار الكهف الضخم اكتشف ما يدل على ان هذا الموضع كان كنيسة. كما وجد بقية لتمثال رأس أسد وهو علامة مرقس الانجيلي وشعاره، وفي وادي الإنجيل المجاور، عثر الحلاق وفريقه على صليب محفور بطريقة المسيحيين الأوائل عند مدخل كهف الانجيل، وعلى مقر ديني يحوي ثمانية صلبان ومعمودية عامة تعرف اليوم باسم «عين سربلي»، كما عثر داخل كهف معلق على مصطبة حجرية صالحة للجلوس والكتابة رجح أن مرقس كان يكتب عليها إنجيله.

يقول الحلاق: «بالرغم من اهمية هذه المواقع والبقع الأثرية التي اكتشفناها، الا اننا لا نستطيع استيفاءها حقا وبدقة لأن العمل يتطلب معاول المنقبين ويتطلب حفريات واستقصاءات علمية دقيقة لفرق من المتخصصين في أفرع عدة من علم الآثار». لا سيما وان المنطقة التي تنتشر فيها معاقل مرقس تقدر مساحتها بحوالي 2000 كيلومتر مربع.

تبقى ليبيا قارة مجهولة بأثارها المنتشرة على كامل أراضيها من جنوبها الى شمالها ومن شرقها الى غربها، وسيكون على أن سلطات قادمة أن تهتم بتلك الكنوز الصامتة التي لا تمثل فقط رصيدا ثقافيا وحضاريا ثريا، ولكنها يمكن إن تتحول كذلك الى رافد إقتصادي مهم من خلال تنشيط الحركة السياحية التي لم تحظ بأي إهتمام منذ إستقلال البلاد قبل 70 عاما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *