… ولا تزال فزان محط أطماع فرنسا
الحبيب الاسود
كاتب تونسي
علاقة فرنسا بليبيا هي كذلك علاقة المستعمر القديم بجزء من مستعمراته، فالجنوب الليبي كان الى عهد ليس ببعيد محتلا من قبل الفرنسيين، ففي أثناء الحرب العالمية الثانية قامت قوات فرنسا الحرة بطرد القوات الإيطالية واحتلال مرزق وهي بلدة رئيسية في فزان في 16 يناير 1943، وظلت المنطقة تحت السيطرة العسكرية الفرنسية حتى 1951. عندما أصبحت ولاية فزان بعد ذلك جزءا من المملكة الليبية المتحدة بعد أستفتاء أجراه أبناء فزان وعلى أثره أعلن الملك أدريس السنوسي المملكة الليبية المتحدة في 24 ديسمبر 1951
ووفق دراسة بقلم سيد أعمر شيخنا باحث ومحلل موريتاني، مختص في العلوم السياسية وتاريخ موريتانيا والساحل الصحراوي، وجد الاستراتيجيون الفرنسيون في السيطرة على الجنوب الليبي أولوية قصوى من أجل تثبيت قواعد السيطرة الاستعمارية في الأقاليم المحتلة حديثا، ووفق التقديرات الفرنسية – حينها – تنبع أهمية الجنوب الليبي من جملة معطيات ثقافية وعسكرية واقتصادية يمكن تلخيصها في النقاط التالية:
أولا: القلق من قوة نفوذ الحركة السنوسية ذات الخلفية الإصلاحية والنَفس الجهادي التي كانت تتخذ من الجنوب الليبي في تلك المرحلة نقطة ارتكازٍ لها، والعداء الذي تُكنه الحركة السنوسية – ذات الأصل الجزائري والهوى العثماني- للاستعمار الفرنسي والتي نجحت في استثمار تأثيرها الديني عبر شبكة مريديها وأنصارها في عموم المنطقة باتجاه مواجهة طلائع الاستعمار الفرنسي واستطاعت بحكم علاقاتها الوثيقة مع شعوب “التبو” و”الطوارق” و”الهوسا” جعل الطموحات الفرنسية في المنطقة شديدة الكلفة، كما تذكر سجلات تاريخ مقاومة قبائل ومجموعات أقاليم الجنوب الجزائري والشمال النيجري والتشادي.
ثانيا: الحاجة إلى تأمين التواجد الاستعماري في الجوار الإفريقي لليبيا وبالأخص تشاد والنيجر تأسيسا لخلق قطيعة بين ليبيا العربية الإسلامية وجوارها الإفريقي المسلم، وهو توجه استعماري يعتمد سياسة “فرق تسد” تم تعميمه على كامل الحزام العربي الإفريقي الممتد من السنغال وحتى دارفور.
ثالثا: التخطيط لنهب خيرات المنطقة وثرواتها الاقتصادية وفي مقدمتها الثروات المركوزة في باطن الأرض من يورانيوم وذهب وأخيرا غاز ونفط.
في السياق التاريخي السابق نشأت قصة الارتباط الفرنسي بالجنوب الليبي في مطلع القرن العشرين، وسوف يضيف التدخل الفرنسي الثاني في الجنوب الليبي خلال الفترة مابين (1943-1950م) عقب هزيمة الطليان في الحرب العالمية الثانية بُعداً جديدا في الاستراتيجية الفرنسية في الجنوب الليبي يتعلق هذه المرة بصراع النفوذ مع الدول الكبرى في ليبيا، حيث ظلت فرنسا تعتبر جنوب ليبيا ضمن مناطق نفوذها في القارة الإفريقية، وقد شرح “جاك بيشون” في كتابه (المسألة الليبية في تسوية السلام) – الموجه لصناع القرار الفرنسي في الأربعينات – مكانة ليبيا بالنسبة لفرنسا في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. يقول المؤلف: “بعد أن خرجت إيطاليا من شمال إفريقيا، صار التحكم في ليبيا أحد أهم مشاكل تسوية السلام في البحر المتوسط، وهو أمر وثيق الصلة بالأمن العالمي، ويهم على الأخص أمن فرنسا نفسها وأمن بريطانيا”.
ويرى الكاتب الليبي فرج الكندي أن «الأطماع الفرنسية فى الجنوب تمتد إلى زمن ليس بالقصير وذلك بدء من الاحتكاك الذى حدث مع الحركة السنوسية ومحاولة فرنسا التقدم شمالا للقضاء على النفوذ السنوسي فى جنوب الصحراء، ومحاولة ربط الطريق الموصل بين مستعمراتها فى تشاد وتونس، والرغبة فى ضم مدينة سرت الساحلية إلى إقليم فزان ليكون لها منفذا إلى البحر المتوسط، وكان، والذى فتح باب التوسع الفرنسي فى تللك المناطق هو الاتفاق الذى عقد بين فرنسا وبريطانيا فى 31 مارس 1899 الذى تم بموجبه تسوية الخلافات بين الدولتين حيث تنازلت فرنسا لبريطانيا عن بحر الغزال وبحر العرب ودارفور وأعطيت هي الحق فى التوسع فى شمال وشرق بحيرة تشاد، الأمر الذى يحقق لها ربط ممتلكاتها فى شمال وغرب أفريقيا، وبهذا يكون إقليم فزان من ضمن الاتفاق الذى عقد بين الدولتين والذى يسمح لفرنسا بالتوسع شمال بحيرة تشاد؛ لتتمكن من الوصول إلى مستعمراتها فى شمال أفريقيا وهذا لن ايتم الا عبر المرور بإقليم فزان فى ليبيا ، غير أن النفوذ الفرنسي في الجنوب الليبي لم يتعزز إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وانضمام فرنسا إلى جانب دول الحلفاء وإعلان إيطاليا الحرب على الحلفاء تحالفاً مع دول المحور الأمر الذى دفع إلى اتفاق فرنسي بريطاني عام 1943م على أن تزحف القوات الفرنسية بقيادة الجنرال لوكريك من تشاد وتحتل إقليم فزان الواقع فى الجزء الجنوبي من الصحراء الليبية .وباتصال قام به الجنرال ديغول بالأمير إدريس السنوسي تم الاتفاق – على غرار ما تم الاتفاق عليه ما بين الأمير إدريس والانجليز بتكوين نواة جيش من الليبيين المهاجرين إلى مصر للقيام بالقتال ضد الإيطاليين مع الإنجليز – أن يقوم الأمير بتكليف احمد سيف النصر وبعض الليبيين المهاجرين إلى النيجر وتشاد بتشكيل قوة عسكرية تحت إشراف فرنسي للدخول إلى إقليم فزان مع القوات الفرنسية المهاجمة للقوات الإيطالية المحتلة لفزان، وتقدمت القوات المشتركة الفرنسية الليبية للسيطرة على فزان وانتزاعها من الاحتلال الإيطالي، وألحقت الهزيمة بالقوات الإيطالية وسيطرت القوات الفرنسية على الجنوب الليبي المعروف بإقليم فزان»
كانت فرنسا تعمل على تحويل ليبيا الى جزء من مشمولات قرارها السياسي، وفي نوفمبر 1953 سافر الملك ادريس إلى المغرب وبرفقته كل من الوزير الفرنسي مسيو دي بارسي والقنصل الفرنسي في طرابلس مسيو موري، وكان الغطاء الرسمي لتلك الرحلة هو زيارة آثار أجداده مولاي إدريس الأكبر ومولاي إدريس الأصغر في فاس والزرهون. وهناك رُتبت له مقابلة الشريف محمد بن عرفة الذي نصبته فرنسا سلطاناً على المغرب في آب (أغسطس) من تلك السنة بدلاً من قائد الجهاد المغربي من أجل الاستقلال الملك محمد الخامس الذي كان يعيش وأسرته في المنفى. كان ذلك اللقاء هو الوحيد الذي حظي به محمد بن عرفة مع أي زعيم عربي، وقد شجبته جامعة الدول العربية كما قوبل اللقاء بامتعاض الوطنيين المغاربة ،وفق دراسة لرئيس الإتحاد الدستوري الليبي محمد بن غليون الذي أكد أن ذلك النهج الفرنسي في صناعة حليف تابع لفرنسا وتنصيبه في مناطق نفوذها هو تحديداً ما سعت الى تطبيقه في الجنوب الليبي قبل نحو 70 سنة لضمان تبعيته لها، وليكون امتداداً لمستعمراتها في ما كان يعرف بـ «أفريقيا الأستوائية الفرنسية»، وذلك عقب غزوها للإقليم وطرد القوات الإيطالية منه واستعادة سيطرتها عليه في كانون الثاني (يناير) 1943 بمساعدة المجاهدين الليبيين اللاجئين في تشاد والنيجر تحت إمرة أحمد سيف النصر الذي كلفه السيد ادريس بالتعاون مع قوات فرنسا الحرة لدحر المستعمر الإيطالي عن فزان ضمن الاتفاقية التي أبرمها السيد مع الحلفاء.
ويضيف أن فرنسا كادت أن تنجح في ذلك المسعى عندما تمكنت من إغواء عمر سيف النصر، ووعدته بجعله حاكماً تابعاً لها يتمتع بحمايتها ونفوذها بعد عزل فزان عن بقية التراب الليبي. وقد حاولت فرنسا قبل ذلك إغراء الزعيم الوطني أحمد سيف النصر بهذا العرض وخلعت عليه لقب باي فزان وطبعت صورته على طوابع البريد لكنه رفض مفضلاً مصلحة الوطن.
وقد تسبب ذلك المسعى في عرقلة جهود ادريس لتحرير فزان من الفرنسيين وضمها للمملكة الليبية المستقلة، وإعاقة جهوده المدعومة من بريطانيا والدول الحليفة التي صارت تدين له بما قدمه لها من مساعدات عظيمة خلال الحرب العالمية الثانية.
ولم تتوقف محاولات فرنسا لتحقيق أحلامها التوسعية الخاصة بإقليم فزان عند هذا الحد بل كانت تدعمها بتحركات سياسية ودبلوماسية فامتنعت عن التصويت على قرار الأمم المتحدة باستقلال ليبيا سنة 1949، وقامت بإجراءات عملية على الأرض تمثلت في فصل فزان عن بقية التراب الليبي وإثارة الروح الانفصالية لدى السكان، وتكثيف حملاتها الدعائية لحضّ أهل فزان على التصويت للانضمام الى فرنسا عندما تستفتيهم الأمم المتحدة في أواخر الأربعينات.
ولم يحبط ذلك المشروع الجهنمي إلا تعاون العقلاء من آل سيف النصر الذين كبحوا أحلام عمر وأنقذوا الموقف والوطن. وقد كافأهم الملك بعد الاستقلال بجعلهم الحكام الفعليين لفزان الليبية، فكانوا ولاتها طوال العهد الفيديرالي للمملكة، فحكمها أحمد سيف النصر ثم عمر سيف النصر ثم غيث عبدالمجيد سيف النصر حتى 1963.
يتابع بن غليون، أنه، بمراجعة الوثائق الرسمية ووضع زيارة الملك ادريس للسلطان الدمية في المغرب في سياقها التاريخي والسياسي فإنها لم تكن إلا مناورة سياسية أجبر عليها ادريس كتنازل لفرنسا ولإظهار حسن النوايا تجاهها وعدم تهديد مخططاتها في تلك المنطقة، وتمهيداً لبدء المفاوضات الرامية لعقد اتفاقية صداقة بين البلدين سنة 1955 انسحبت بموجبها فرنسا – على مضض – من اقليم فزان، وتنازلت بموجبها ليبيا للجزائر (الفرنسية في ذلك الوقت) عن شريحة من الأراضي الغنية بالنفط على الحدود بين ليبيا والجزائر، وكانت النتيجة ولادة دولة مستقلة ذات سيادة، ومعترف بها في هيئة الأمم المتحدة – للمرة الأولى في تاريخ ليبيا – ضمنت أمنها وحدودها وسيادتها من أطماع دول الجوار والمخططات التوسعية للقوى العظمى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بموجب اتفاقيات صداقة أبرمتها مع كل منها.
وفى ديسمبر 1954 قدم منديس فرانس اقتراح بشأن التفاوض مباشرة مع الحكومة الليبية فقبل مصطفى بن حليم على شرط ان تبدا المفاوضات قبل 31 ديسمبر وهو التاريخ المحدد بنهاية الاتفاقية العسكرية المؤقتة وفى الفترة ما بين 3-6 يناير 1955 توصل رئيسا الوزراء الليبي والفرنسي الى الاتفاق على مبدا الجلاء الذى كان المطلب الأساسي من الجانب الليبي والمرفوض من المبداء من الجانب الفرنسي ليصبح هذا المبدأ – الجلاء – هو الاساس للمفاوضات فى مدينة طرابلس فى يوليو 1955 نتج عن هذه المفاوضات اهم نقطة خلاف بين الطرفين وهو اصرار فرنسا على وجوب عودة قواتها الى فزان فى حالة اعتداء دولة اجنبية مما دفع بن حليم الى قبول مطلب فرنسا ولكن بدون التزام قطعي بل عمل على تأجيل مضوع الاتفاق على قضية الدفاع الى وقت مناسب تجرى فيه مفاوضات بين ليبيا وفرنسا فى حالة حرب فى المنطقة وبذلك فوت الامر على الفرنسي ليحقق مبدا اهم وهو الجلاء اولا ثم لكل حادث حديث وبهذا فوت على فرنسا ما كانت تحلم به وتعمل جاهدة على تحقيقه وهو البقاء فى فزان او تكبيل الدولة الليبية بمعاهدة تلزمها بالموافقة على عودة القوات الفرنسية فى إي ظرف تراه فرنسا يحتاج الى تواجدها فى المنطقة وهذا ما حال دونه اصرار المفاوض الليبي.
لتنتهي رحلة مفاوضات، وفق دراسة فرج الكندي ، شاقة ومضنية بين طرفين غير متكافئين فى القوة والعتاد المادي قوة محتل يمتلك المقومات المادية والعسكرية يقابله مفاوض لا يراهن على هذه المقومات بقدر ما يعتمد على حق طبيعي فى الاستقلال وتقرير المصير وايمان صادق ان هذه الارض ملك الليبيين ومن حقهم وحدهم ان يحكموها ويمارسون سيادتهم الوطنية كاملة غير منقوصة ودون وصاية او حماية من إي قوة اخرى وهذا ما تحقق وتتوج فى 26 ديسمبر1956 بالتوقيع الرسمي على اتفاقية الحدود بين البلدين وتم تبادل وثائق الاتفاقية بين الطرفين.
اليوم تستعيد فرنسا الإستعمارية أطماعها القديمة في الجنوب الليبي ، مستفيدة من وضع الدولة العليلة، ويبدو الصراع بينها وبين إيطاليا وبريطانيا واضحا كما كان سابقا، حيث تطمح باريس الى تأمين مستعمراتها في دول الساحل والصحراء بإمتداد مؤثر داخل ليبيا قد يمتد الى البحر الأبيض المتوسط عبر الجفرة فسرت، بينما ترى روما أنها فرصة سانحة لوضع يدها من جديد على ما كانت تعتبره شاطئها الرابع، أما بريطانيا فلها هي الأخرى رغبات إستعمارية ترى أن زفضل من يحققها لها هم الإسلاميون المرتبطون تاريخيا بها وبمخابراتها، وقد يكون إعتذارها لعبد الحكيم بالحاج، وتحالفها الخفي مع الدوحة، وإحتضانها للإخوان ومفتيهم الررهابي، مما يعبر تلك الرغبات التي تتأجج من جديد في ظل أنهيار الدولة الليبية وسقوط أغلب نخبها الجديدة في بئر الخيانة والعمالة والفساد
إن فزان بالنسبة لفرنسا اليوم هي سد لتحصين تشاد والنيجر ومالي، وبوابة على إفريقيا، وقاعدة الكيان الليبي، وهي ينبوع الثروات غير المحدودة، وهي فوق كل ذلك الجوهرة المهملة من قبل الليبيين أنفسهم، وخاصة في العاصمة المسكونة بالفساد والمؤامرات والتجاذبات السياسية والميلشياوية.